قالوا: إن هذه الجامعة إنما أنشئت للبحث العلمي لا للعلم نفسه، إذ
العلم قليله وكثيره عِلم، وجيده ورديئه عِلم، وما صح فيه وما تشابه منه كل ذلك علم؛ أما البحث العلمي فمداره على التحقيق والتمحيص، فهو فوق العلم لأنه سببه وغايته والواسطة إليه، والبحث يتناول الباطل كما يتناول الحق لأنه بحث، ولذلك وضع، وبذلك مادته، فلو أطبق الناس جميعاً على رأي من الآراء أو مذهب من المذاهب ثم قام أستاذ في هذه الجامعة فنقض ذلك الرأي وذهب خلاف ذلك المذهب كان له أن يفعل ما وسعه وأن ينقض وأن يخالف، وهو مصيب وإن أخطأ، وقريب من الحقيقة وإن بعُد، وعالم وإن جهل الجهلة التي لا يلعن ما قبلها إلا ما بعدها.
قالوا: فإنه إنما يبحث ليهتدي إلى شيء، فإن اهتدى فقد اهتدى، وإن
ضل شفع له أنه مجتهد، وأنه لم يسلب الرأيَ الصحيحَ إلا برأي ظن الصحة
غالبةَ عليه.
ومعنى هذه الفلسفة أَن مضغ الماء كمضغ الخبز، كلاهما يحتاج إلى
الأسنان الحادة والأضراس الطاحنة والأنياب الشكسة، ما دام الذي يمضغ الماء أستاذاً في الجامعة وما دام المضغ عنده يسمى بحثاً، إذ العبرة به وحده إن تعاقل وإن تحامق، وإن صدق وإن كذب؛ وما الجامعة إلا مصنع ومختبر تكشف فيه آراء وتصنع فيه آراء، وتزوَّر فيه آراء، والأستاذ في الجامعة يقول ما يشبهه رأياً وعقيدة وعلماً وجهلاً، ويمضي في "البحث" على ما يخيل له حقاً أو باطلاً، فما رآه هو الصحيحَ فلا صحيح غيره ولا صحيح من قبله أو بعده.
فيا أيها الناس. . . وحيثما كنتم فولُّوا وجوهكم شطره: (وجعل الله الكعبة
البيتَ الحرامَ قياماً للناس) وجعل الله الجامعة الحرام قياماً للناس!
على إنه إن صح شيء من ذلك أو قارب أن يصح فقد وجب أن لا يتولى
التدريس في الجامعة إلا رجل لا يوازن به أحد في علمه الذي يتولاه.
ويكون من أيسر صفاته أنه فوق كل صفة معروفة في نظائره وأنداده - قد تم من حيث