يتمون وزاد عليهم أشياء ليست في المواهب المعروفة، بل تقع في أقصى ما
يبلغ العقلُ الإنساني عند الأفق القريب من الوحي والإلهام، فإن ظفرت الجامعة بمثل هذا العقل الفذ كان لها أن تقول ما هي قائلة وأن تزعم ما شاء لها الزعم، وهي في ذلك آمنة أن يُرد عليها لأنها حينئذ تتكلم بما لا يسمو إليه كلام آخر.
وتأتي للناس بما فيه زيادة على الناس ويكون ذلك مع حجتها عليهم، فيسكت المتكلم، وينقطع المكابر، ولا يبقى إلا التسليم للأقوى، وعلى الأصل الذي بنيت عليه الطبائع كلها.
ولقد يتفق للجامعة المصرية مثل هذا الأستاذ - الذي يأكل الأساتذة -
تجده في علم كالقانون أو الطب أو الفلسفة ونحوها مما تعاوَرَهُ العلماء من
أجيال بعيدة وفرغوا منه تدويناً، وتعليقاً وشرحاً وتحققاً ولم يبق إلا مثل ما
بقي مما تتفاوت به العقول وتختلف القرائح في حدة الذكاء وقوة الملاحظة
من رأي يزاد عليه أو ينقص منه، ولكن أين مثل ذلك في تاريخ الأدب
العربي وهو علم لا يزال يتخلق، ولا يزال كالجزائر البركانية: تظهر الجزيرة
بحالها في البغتة والفجأة وتخسف الأخرى في مثل ذلك، وما علة ما يظهر
إلا علة ما يخسف، ولكن لا بد أن يقع الحدَثُ ثم تجيء الفلسفة والتعليل
بعد ذلك.
ومن العجيب أن أستاذ الجامعة الدكتور طه حسين لم ينتهج إلا الطريقة
التي لا تلتئم مع طبيعة هذا التاريخ، فهو يبحث دائماً عن العلة في أحد شيئين: إما في غير معلولها، وذلك خطأ كبير؛ وإما في معلولها بعد أن يغيره على ما
يتوهم، وذلك شر من الأول، ومثل هذا إن سُمي بحثاً وسمي فلسفة في التاريخ لا يمكن ألبتَّة أن يسمى تاريخاً، ولا يخرج منه إلا كلام مستفيض هو على كل حال كلام قائله وعلى قدر من عقله وذكائه واطلاعه وطريقة فهمه، لا بحسب التاريخ ورجاله وعلله، فيكون الأستاذ كأنه يدرس فناً من الكلام بعض مادته من التاريخ، لا فناً من التاريخ بعض مادته من الكلام.
وهذه الطريقة التي تسمى علمية هي في التاريخ أجهل الطرق، لأنها
تختلف فيما تقرره باختلاف الرجال والأزمنة، مع أن التاريخ شيء ثابت لا
يختلف ولا يمكن أن يُخلَق مرة أخرى، لا بإنشاء الجامعة المصرية ولا بأمر
وزارة المعارف. . . ومتى ولد التاريخ لم يهرم ولم يمت، ثم تلك الطريقة هي
أيسر الطرق وخاصة على من كان قليل الاطلاع، فإنك لا تتقيد فيها بمعروف تعرفه ولا بمنكر تنكره، إلا ما شئت وشاءت لك غفلة من حولك، ثم أنك