وكان الشيخ صنف بجرجان المنطق الذي وضعه في أول النجاة، ووقعت منه نسخة إلى شيراز فنظر فيها جماعة من أهل العلم، فوقعت لهم شبه في مسائل فكتبوها على جزء، وكان القاضي بشيراز من جملة القوم، فأنفذوا الجزء إلى الحكيم أبي القاسم الكرماني، فدخل أبو القاسم على الشيخ عند اصفرار الشمس في الصيف، ووضع الجزء بين يدي الشيخ. فلما خرج أبو القاسم صلى الشيخ العشاء، وكتب خمسة أجزاء مربعة كل جزء عشرة أوراق على الربع الفرعوني ثم نام، فلما صلى الغداة، بعث الأجزاء إلى أبي القاسم وقال: استعجلت في الجواب حتى لا يمكث القاصد. فلما رأى أبو القاسم (ذلك) تعجب وكتب إلى شيراز بهذه القصة.
ثم وضع بسبب الرصد آلات ما سبقه بها أحد. واشتغل بالرصد، ثماني سنين، ثم صنف الشيخ كتاب الإنصاف.
ووقعت محاربة بين العميد أبي سهل الحمدوني صاحب الري عن جهة السلطان محمود وبين علاء الدولة، قصد السلطان مسعود بن محمود أصفهان، وأخذ أخت علاء الدولة. فبعث أبو علي إلى السلطان مسعود وقال: إن تزوجت بهذه المرأة التي هي كفؤ لك سلم علاء الدولة إليك الولاية، فتزوجها السلطان مسعود، ثم اشتغل علاء الدولة بالمحاربة، فبعث السلطان إليه رسولاً وقال: أنا أسلم أختك إلى ولوده (؟) العسكر، فقال علاء الدولة لأبي علي: أجب فقال أبو علي: إن كانت المرأة أخت علاء الدولة فهي زوجتك، وإن طلقتها فهي مطلقتك، والغيرة على الأزواج لا على الأخوات، فأنف السلطان من ذلك ورد أخت علاء الدولة عليه عزيزة مكرمة.
ثم نهب العميد أبو سهل الحمدوني مع جماعة من الأكراد أمتعة الشيخ وفيها كتبه، ولم يؤخذ من كتاب الإنصاف إلا أجزاء. ثم ادعى عزيز الدين الفقاعي الزنجاني في شهور سنة خمس وأربعين وخمسمائة أنه اشترى منه نسخة بأصفهان وحملها إلى مرو والله أعلم.
وأما الحكمة المترقية بتمامها والحكمة العرشية، فقال الإمام إسماعيل الباخرزي أنهما في بيوت كتب السلطان مسعود بن محمود بغزته، حتى أحرقها ملك الجبال الحسين وعسكر الغور والغز، في شهور سنة ست وأربعين وخمسمائة.
وكان أبو علي قوي المزاج، وكانت قوة المجامعة عليه أغلب، وكان يشتغل باستفراغها، فأثر ذلك في مزاجه، وكان لا يعالج شخصه، حتى ضعف في السنة التي حارب فيها علاء الدولة الأمير حسام الدولة أبا العباس تاش فراش على باب الكرخ وعرا الشيخ داء القولنج فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات، فتقرح بعض أمعائه، وظهر له سحج، وكان لا بد له من المسير مع علاء الدولة، فظهر به الصرع الذي يتبع علة القولنج، فأمر يوماً باتخاذ دانقين من بزر الكرفس في جملة ما يحقن به، وخلطه بها طلباً لكسر ريح القولنج. فقصد بعض الأطباء الذي يعالجه، وطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم، ولا يدري أعمداً فعله أم سهواً، فازداد السحج به من حدة بزر الكرفس، وكان يتناول مثروديطوس لأجل الصرع فقام بعض غلمانه وطرح في مثروديطوس شيئاً كثيراً من الأفيون وتناوله. وكان سبب ذلك أن ذلك الغلام خان في خزانته فخاف عاقبة فعله عند برئه.
ونقل الشيخ في المهد كما كان إلى أصفهان، فاشتغل بتدبير نفسه وكان من الضعف بحيث لا يقدر على القيام، فانصرف علاء الدولة إلى أصفهان، والشيخ يعالج شخصه، وغلمانه بتمنون هلاكه، بسبب خيانتهم في أمواله، فقدر الشيخ على المشي، وحضر مجلس علاء الدولة، لكنه مع ذلك لا يحتمي ولا يتحفظ ويكثر التخليط في أمر المعالجة. ولم يبرأ من العلة كل البرء، وكان يبرأ أسبوعاً ويمرض أسبوعاً.
ثم قصد علاء الدولة همذان ومعه الشيخ، فعاود الشيخ القولنج في الطريق إلى أن وصل إلى همذان، وعلم أن قوته قد سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض، فأهمل من أداة نفسه، وقال: المدبر الذي في بدني، عجز عن تدبير بدني، فلا تنفعني المعالجة، ثم ا (غتسل وتا) ب وتصدق بما بقي معه على الفقراء، ورد المظالم إلى عرفه من أربابها، وأعتق غلمانه.
وكان يحفظ القرآن فيختم في كل ثلاثة أيام. ثم مات في الجمعة الأولى من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ودفن في همذان. وفي هذه الجمعة خطبوا في نيسابور للسلطان طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق، وأعرضوا عن ذكر السلطان مسعود بن محمود. وكان عمر الشيخ نح سنة من السنين الشمسية مع كسر.