الحمد لله المنعم الذي له نعم أبت أوضاحها إلا امتداداً، وأمدادها إلا ازدياداً، يفوح عرف عرفانه في آفاق القلوب، ويمحو غفرانه من دفاتر الأعمال رقوم الذنوب، اللطيف الذي له ألطاف لا يدرك كنهها رائد الفكر، ولا يتسع لها نطاق التعداد والحصر، الوهاب الذي له مواهب لا مطمع للحمد في جزائها، ولا قيام للشكر بازائها.
والصلاة على محمد الذي أزاهير رياض نبوته مونقة، ومجاري أنهار شريعته مغدقة، (من) نشأت من آفاق رسالته سحابة عيمها نعمة سابغة وغيثها حكمة بالغة.
ثم السلام على أصحابه وخلفائه الراشدين من بعده، فإن كل خير وبركة ونجاة عندهم وعندنا من عنده.
قال الشيخ الإمام ظهير الدين أبو الحسن بن الإمام أبي القاسم البيهقي: كنت أبسم في تصانيفي عن ثغر الإفادة وأشيم بوارقها. وأتأمل التصانيف المتقدمة وأتبعها لواحقها، وأظن أنه تتهلل لي وجوه من الذكر الجميل، وجدتها في مدة حياتي عابسة، وتورق لي غصون من لسان صدق في العالمين بعدما صادفتها يابسة. وعسى الأيام أن يرجعن قوماً، وأن ترجع إلي الحبيب يوماً، ويساعدنا زمان ألذ من خلسات العيون وأحلى من فترات الجفون، وليت شعري هل عشيات الحمى برواجع، أم نجوم المنى بطوالع، والله ولي التوفيق، ومعين أهل التحقيق.
وهاءنذا ناسج في تصنيفي هذا على منوال مصنف كتاب صوان الحكمة، وهو أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجزي، مشيد بمالهم من حرمة، وذاكر من تواريخ الحكماء وفوائدهم ما قرب غروب نجومه في مغارب النسيان، وأدرجه الدهر تحت طي الحدثان والله المستعان.
وكل من ذكره وأثبت اسمه مصنف كتاب صوان الحكمة، فأنا ما سقيت شماريخه، وما ذكرت فوائده وتواريخه، فإنه أنصف في ذكرهم، وبالغ في حقهم، ونشر أردية جلهم ودقهم.
كان أول من فسر اللغة اليونانية، ونقلها إلى السريانية والعربية، ولم توجد هذه الأزمنة بعد الإسكندر أعلم منه باللغة العربية واليونانية.
وكان حنين في عهد المأمون والمعتصم، وكان بغدادي المولد، وقد نشأ بالشام وتعلم بها.
وكان يدخل بيعة النصارى، ويتعبد على قوانين شريعة عيسى عليه السلام، فرأى يوماً في بيعة صورة عيسى فتفل فيها، وقال: هذه بدعة لا يجوزها الشرع والعقل، وكيف يجوز نصب الصور في مواضع يعبد فيها الله تعالى، الذي هو منزه عن الصورة والهيئة، فحبسه الجاثليق مدة في داره.
فصنف في مدة حبسه المسائل المنسوبة إليه في الطب، وفسر كتب أرسطو وأفلاطون.
ثم اعتذر الجاثليق فما قبل عذره، وما عاد إلى البيعة واشتغل بنشر العلوم.
قال حنين: من ترك إلا كل من السكر، والتمتع في الحمام، وإدخال الطعام على الطعام فقد استغنى عن الطبيب.
وقال: لا تتعجب من موت الحيوان فإن طعامه وشرابه سبب هلاكه (وقال: كل زمان يلائم علماً وعادة وصنفاً من الإنسان) وقال: من شرب على الريق، وجامع على الجوع، فقد جر الموت إلى نفسه بحبل.
وقال: من وضع علماً وصناعة كان كمن بنى داراً، ومن شرح وفسر ذلك الأصل كان كمن طين سطحها وجصصها، وليس من جصص داراً وكنسها كمن بناها.
وقال: ما خاف شقاوة الدنيا، من اكتسب سعادة العقبى.
كان من ندماء المكتفي بالله، وقد دعاه يوماً ليختار طالعاً حتى يجعل فيه ابنه ولي العهد، ومعه الوزير العباس بن الحسن فقال لهما: بايعا أولاً، فبايعا ولده الطفل، فقال له اسحق بن حنين: يا أمير المؤمنين، قد بايعنا ولدك الطفل، ولكن الطفل ناقص لا يتم أمره ولا يصلح للخلافة وأشار إلى الوزير العباس بن الحسن وقال: تأملت طالع المكتفي بالله فوجدت صاحب عاشره في ثالث طالعه، فعلمت أن الأمر بعده لأخيه وكان الأمر كما قال، وجلس بعده أخوه المقتدر بالله.
ولإسحق تصانيف كثيرة، وكان الغالب عليه علم الأحكام والطب ومن كلماته أنه قال يوماً للوزير العباس بن الحسن: أيها الوزير إن من تصدى لحفظ مصالح الناس ذكرته الألسن بالمدح والذم، فاجتهد أن تكون ممدوحاً في ذاتك " لا بحسب " أغراض الناس.
وقال للمكتفي، وقد قرب أجله: يا أمير المؤمنين، قرب منك ما كنت بعده عن نفسك، فلا تلتفت إلى ما بعد عنك، ولا يعود إليك، واشتغل بما قرب منك ولا يفارقك.