كَرِزْقِ الْقَاضِي لَمَّا كَانَ مَشْغُولًا بِحُقُوقِهِمْ وَجَبَ لَهُ النَّفَقَةُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَكَذَا الِاحْتِبَاسُ فَيَجِبُ بِمُقَابَلَتِهِ جَزَاؤُهُ صِلَةً، وَالصِّلَاتُ لَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ حَقَّيْنِ حَقَّ الزَّوْجِ وَحَقَّ الشَّرْعِ فَمِنْ حَيْثُ الِاسْتِمْتَاعُ وَقَضَاءُ الشَّهْوَةِ وَإِصْلَاحُ الْمَعِيشَةِ حَقُّ الزَّوْجِ، وَمِنْ حَيْثُ تَحْصِيلُ الْوَلَدِ وَصِيَانَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الزِّنَا حَقُّ الشَّرْعِ فَبِاعْتِبَارِ حَقِّهِ عِوَضٌ، وَبِاعْتِبَارِ حَقِّ الشَّرْعِ صِلَةٌ فَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَسْتَحْكِمُ إلَّا بِحُكْمِ الْقَاضِي أَوْ بِاصْطِلَاحِهِمَا لِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَوْقَ وِلَايَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا، وَذَكَرَ فِي الْغَايَةِ أَنَّ نَفَقَةَ مَا دُونَ الشَّهْرِ لَا تَسْقُطُ، وَعَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذْ لَوْ سَقَطَتْ بِمُضِيِّ يَسِيرٍ مِنْ الْمُدَّةِ لَمَا تَمَكَّنَتْ مِنْ الْأَخْذِ أَصْلًا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبِمَوْتِ أَحَدِهِمَا تَسْقُطُ الْمَقْضِيَّةُ) أَيْ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ الْمَقْضِيُّ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْهِبَةِ وَالدِّيَةِ وَالْجِزْيَةِ وَضَمَانِ الْعِتْقِ، هَذَا إذَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِالِاسْتِدَانَةِ، وَإِنْ أَمَرَهَا الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ لَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ لَهَا شَبَهَانِ شَبَهٌ بِالصِّلَةِ وَشَبَهٌ بِالدُّيُونِ فَإِنْ أَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ لَا تَسْقُطُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهَا بِهَا سَقَطَتْ كَسَائِرِ الصِّلَاتِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، وَلِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً عَامَّةً فَاسْتِدَانَتُهَا بِأَمْرِ الْقَاضِي كَاسْتِدَانَةِ الزَّوْجِ، وَمَا لَزِمَ بِاسْتِدَانَتِهِ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فَكَذَا بِاسْتِدَانَتِهَا بِأَمْرِ الْقَاضِي، فَإِنْ قِيلَ أَنْتُمْ قُلْتُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ اسْتَحْكَمَ هَذَا الدَّيْنُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَسْقُطَ بِالْمَوْتِ أَيْضًا لِاسْتِحْكَامِهِ بِالْقَضَاءِ قُلْنَا إنَّ الْمَوْتَ يُبْطِلُ الْأَهْلِيَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِتْمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ أَقْوَى فِي إبْطَالِ الصِّلَةِ فَيَحْتَاجُ فِيهِ لِلِاسْتِحْكَامِ إلَى زِيَادَةِ تَأْكِيدٍ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِدَانَةِ، وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ تَبْطُلُ الْأَهْلِيَّةُ فَيَسْتَحْكِمُ بِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ بِهَا، وَكَذَا لَا تَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ فِي الصَّحِيحِ لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا تُرَدُّ الْمُعَجَّلَةُ) أَيْ لَا تُرَدُّ النَّفَقَةُ الْمُعَجَّلَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بِأَنْ أَسْلَفَهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ مَثَلًا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَا يُسْتَرَدُّ ذَلِكَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُحْتَسَبُ لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى، وَمَا بَقِيَ يُسْتَرَدُّ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْكِسْوَةُ هُمَا يَقُولَانِ إنَّهَا أَخَذَتْ عِوَضًا عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ بِالِاحْتِبَاسِ فَتَبَيَّنَ أَنْ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ وَبِاعْتِبَارِ حَقِّ الشَّرْعِ صِلَةٌ) قَالَ الرَّازِيّ، وَإِذَا كَانَ مِنْ الصِّلَاتِ لَا يَسْتَحْكِمُ الْوُجُوبُ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالرِّضَا. اهـ. (قَوْلُهُ لَمَّا تَمَكَّنَتْ مِنْ الْأَخْذِ أَصْلًا) وَهَذَا حَقٌّ، وَقَدْ تَمَّ الْوَجْهُ. اهـ. فَتْحٌ

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ، وَبِمَوْتِ أَحَدِهِمَا تَسْقُطُ الْمَقْضِيَّةُ) قَالَ فِي النُّقَايَةِ وَتَسْقُطُ فِي مُدَّةٍ مَضَتْ إلَّا إذَا سَبَقَ فَرْضُ قَاضٍ أَوْ رَضِيَا بِشَيْءٍ فَتَجِبُ لِمَا مَضَى مَا دَامَا حَيَّيْنِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ قَبْضٍ سَقَطَتْ. اهـ. وَمِثْلُهُ فِي أَصْلِ الْوِقَايَةِ، وَقَالَ قَاضِي خَانْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَتَاوِيهِ، وَكَمَا تَسْقُطُ الْمَفْرُوضَةُ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ هَلْ تَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَسْقُطُ، وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ وُجِدَتْ رِوَايَةٌ فِي السُّقُوطِ، وَذَكَرَ الْبَقَّالِيُّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَسْقُطُ، وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ زَادَ الْخَصَّافُ لِسُقُوطِ النَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ شَيْئًا آخَرَ فَقَالَ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ وَمَوْتِهَا، وَتَسْقُطُ إذَا طَلَّقَهَا أَوْ أَبَانَهَا اهـ كَلَامُ قَاضِي خَانْ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّارِحِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ أَيْ إذَا أَمَرَهَا الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ اهـ

قَوْلُهُ قَالَ فِي الْفَتَاوَى، وَتَسْقُطُ أَيْ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ. اهـ. شُمُنِّيٌّ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ قَبْضٍ سَقَطَتْ أَيْ وَبَعْدَ فَرْضِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي عَلَى شَيْءٍ. اهـ. شُمُنِّيٌّ وَقَوْلُهُ سَقَطَ الْمَفْرُوضُ إلَّا إذَا اسْتَدَانَتْ بِأَمْرِ قَاضٍ أَيْ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ إذَا أَمَرَهَا يَعْنِي الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ فَاسْتَدَانَتْ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ هَكَذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَبْطُلُ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي الْمُخْتَصَرِ لِأَنَّ اسْتِدَانَتَهَا بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَلِلْقَاضِي وِلَايَةٌ عَلَيْهِمَا فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِدَانَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي رِوَايَةٍ لَا تَسْقُطُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. اهـ. شَرْحُ النُّقَايَةِ لِلشَّيْخِ قَاسِمٍ اهـ

(قَوْلُهُ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ) قَالَ الرَّازِيّ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهَا الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ لَهَا زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ بِأَمْرِ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ فَلَا تَسْقُطُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِالِاسْتِدَانَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَأَكَّدُ تَأْكِيدَهَا فَتَسْقُطُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عِنْدَهُ، وَالْأَعْوَاضُ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. اهـ. (قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا صِلَةٌ) الصِّلَةُ بَذْلُ مَالٍ شَرَعَهُ الشَّارِعُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لِشَيْءٍ. اهـ. (قَوْلُهُ وَإِنْ أَمَرَهَا الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ إلَخْ) فَاسْتَدَانَتْ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ لَا يَبْطُلُ الرُّجُوعُ فِي هَذَا الدَّيْنِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي شَرْحِ النَّفَقَاتِ، وَعَلَّلَ وَقَالَ لِأَنَّهَا لَمَّا اسْتَدَانَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي جُعِلَ كَأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي اسْتَدَانَ، وَلَوْ كَانَ هُوَ اسْتَدَانَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ مَاتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّيْنُ كَذَا هَذَا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ أَنْتُمْ قُلْتُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ اسْتَحْكَمَ هَذَا إلَخْ) وَجَعَلْتُمُوهُ مُؤَكِّدًا لِلِاسْتِحْقَاقِ كَالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ. اهـ. فَتْحٌ

(قَوْلُهُ لِاسْتِحْكَامِهِ بِالْقَضَاءِ) أَيْ كَالْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ أَيْ لَا تُرَدُّ النَّفَقَةُ الْمُعَجَّلَةُ إلَخْ) سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً أَوْ مُسْتَهْلَكَةً اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَمَا بَقِيَ يُسْتَرَدُّ مِنْهَا)، وَكَذَا يُسْتَرَدُّ قِيمَةُ الْمُسْتَهْلَكِ وَلَا يُرَدُّ قِيمَةُ الْهَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ. اهـ. فَتْحٌ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُسْتَرَدُّ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً أَوْ مُسْتَهْلَكَةً قِيَاسًا كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَغَيْرِهِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ أَيْضًا فِي فَتَاوِيهِ، وَفِي عَامَّةِ نُسَخِ أَصْحَابِنَا مِثْلُ شَرْحِ الْكَافِي لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ لِلْإِمَامِ الْإِسْبِيجَابِيِّ وَالْمُخْتَلِفِ وَالتُّحْفَةِ، وَخُلَاصَةِ الْفَتَاوَى ذُكِرَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ اهـ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015