سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا هَذَا مِنْ كَيْسِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَرْأَةِ أَطْعِمْنِي أَوْ فَارِقْنِي، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْفِرَاقَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَكَذَا الْحَدِيثُ الثَّانِي لَا يُلْزِمُ الْحُجَّةَ لِأَنَّ فِي طَرِيقِهِ عَبْدَ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ، وَقَالَ الْبَرْقَانِيُّ فِي حَدِيثِهِ نَكِرَةٌ، وَقَالَ أَيْضًا هُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَنَا، وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِكِتَابِ عُمَرَ أَيْضًا لِأَنَّ مَذْهَبَهُ إسْقَاطُ طَلَبِهَا مِنْ الْمُعْسِرِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَقَالَ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ، وَكِتَابُهُ أَيْضًا كَانَ إلَى الْقَادِرِينَ عَلَى النَّفَقَةِ، وَلِهَذَا أَمَرَهُمْ أَنْ يُوَفُّوا بِالْبَقِيَّةِ مِنْ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهَا عَلَى الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ لِأَنَّهُمَا يَفُوتُ بِهِمَا الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالْمَالُ تَابِعٌ فَلَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ أَصْلٌ، وَلِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ بَلْ تَتَأَخَّرُ، وَتَبْقَى دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيُمْكِنُ تَدَارُكُهَا فِي الْآخِرَةِ فَلَا تَكُونُ مُعَارِضَةً لِإِبْطَالِ حَقِّهِ مِنْ الْمِلْكِ

وَفِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَتَعَارَضَ الْحَقَّانِ فَتَرَجَّحَ حَقُّهَا لِأَنَّهُ أَصْدَقُ مِنْ حَقِّهِ إذْ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالنِّكَاحِ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ نَفَقَةِ الْأَمَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَكُونُ لَهُ دَيْنٌ عَلَى سَيِّدِهِ فَتَعَيَّنَ الْبَيْعُ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الرَّقَبَةِ إلَى بَدَلٍ وَهُوَ الثَّمَنُ، وَسُقُوطَ حَقِّ الْعَبْدِ فِي النَّفَقَةِ لَا إلَى بَدَلٍ فَكَانَ الْبَيْعُ أَهْوَنَ لِأَنَّهُ كَلَا فَائِتٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يُعْتِقَهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ بِلَا عِوَضٍ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ لَمْ يَفُتْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُخَاطَبٌ بِمَا عِنْدَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وَلَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ إلَّا عَلَى الِالْتِزَامِ فِي الذِّمَّةِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَى الْمَيْسَرَةِ بِالنَّصِّ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْمُجْتَمَعَةُ عَنْ الْمَاضِي، وَفَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ مَعَ فَرْضِ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَنْ يُمْكِنَهَا إحَالَةُ الْغَرِيمِ عَلَى الزَّوْجِ فَيُطَالِبَهُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ حَيْثُ تُطَالِبُ هِيَ ثُمَّ تَرْجِعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا تُحِيلُ عَلَيْهِ الْغَرِيمَ لِعَدَمِ وِلَايَتِهَا عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ تَفْسِيرَ الِاسْتِدَانَةِ هُوَ الشِّرَاءُ بِالنَّسِيئَةِ لِتَقْضِيَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ، وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ الْمَرْأَةُ الْمُعْسِرَةُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا مُعْسِرًا، وَلَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ مُوسِرٌ أَوْ أَخٌ مُوسِرٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا

وَيُؤْمَرُ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ، وَيُحْبَسُ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ إذَا امْتَنَعَ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَعْرُوفِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لِنَفَقَتِهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا، وَهِيَ مُعْسِرَةً تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلَا الزَّوْجُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لِلْمُعْسِرِ أَوْلَادٌ صِغَارٌ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إنْفَاقِهِمْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ لَوْلَا الْأَبُ كَالْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ بِخِلَافِ نَفَقَةِ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ حَيْثُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْيَسَارِ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ مَعَ الْإِعْسَارِ فَكَانَ كَالْمَيِّتِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَمَّمَ نَفَقَةَ الْيَسَارِ بِطُرُوِّهِ، وَإِنْ قَضَى بِنَفَقَةِ الْإِعْسَارِ) يَعْنِي إذَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا نَفَقَةَ الْمُعْسِرِ لِإِعْسَارِهِ ثُمَّ أَيْسَرَ تَمَّمَ لَهَا نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ بِطُرُوِّ الْيَسَارِ أَيْ بِحُدُوثِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِهِ لِعُذْرِ الْإِعْسَارِ فَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ بَطَلَ ذَلِكَ كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ إذَا وَجَدَ رَقَبَةً بَطَلَ صَوْمُهُ، وَتَقَدُّمُ الْفَرْضِ لَا يَمْنَعُ الْإِتْمَامَ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ تَقْدِيرٌ لِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ حَيْثُ اعْتَبَرَ حَالَ الرَّجُلِ فَقَطْ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ حَالَ الْمَرْأَةِ أَصْلًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ

وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ مِنْ اعْتِبَارِ حَالِهِمَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فَيَكُونُ فِيهِ نَوْعُ تَنَاقُضٍ مِنْ الشَّيْخِ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ هُوَ قَوْلُ الْخَصَّافِ ثُمَّ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا تَجِبُ نَفَقَةٌ مَضَتْ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا) أَيْ إذَا مَضَتْ مُدَّةٌ، وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا الزَّوْجُ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ أَوْ صَالَحَتْ الزَّوْجَ عَلَى مِقْدَارٍ مِنْهَا فَيَقْضِي لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ فَلَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَرِزْقِ الْقَاضِي، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِيرُ دَيْنًا بِلَا قَضَاءٍ وَلَا رِضًا لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ الْمِلْكِ كَالْمَهْرِ قُلْنَا لَوْ كَانَ عِوَضًا عَنْ الْمِلْكِ لَوَجَبَ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَالْمَهْرِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَلِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْمَهْرِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ كَيْ لَا يَقَعَ الْعِوَضَانِ عَلَى مُعَوَّضٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِوَضًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْمِلْكِ أَوْ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا الثَّانِي لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَمْلُوكِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا، وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ الِاحْتِبَاسُ لِأَجْلِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَصِيَانَةِ مَائِهِ أُوجِبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا لِعَجْزٍ عَنْ الْإِنْفَاقِ فَإِنْ رُفِعَ هَذَا الْقَضَاءُ إلَى قَاضٍ آخَرَ جَازَ قَضَاؤُهُ. اهـ. (قَوْلُهُ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ وَيُحْبَسُ) وَفِي الْبَدَائِعِ يُضْرَبُ وَلَا يُحْبَسُ. اهـ. (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ تَقْدِيرٌ لِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَتَقَدَّرُ حُكْمُ الْقَاضِي فِيهَا بِخُصُوصِ مِقْدَارٍ، وَلِأَنَّهُ كَانَ بِشَرْطِ الْإِعْسَارِ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ قَدْ زَالَ فَتَزُولُ بِزَوَالِهِ اهـ فَتْحٌ

(قَوْلُهُ فَيَكُونُ فِيهِ نَوْعُ تَنَاقُضٍ) رَدَّ هَذَا التَّنَاقُضَ الرَّازِيّ فِي شَرْحِهِ، وَقَدْ نُقِلَتْ عِبَارَتُهُ عَلَى هَامِشِ الْمَتْنِ اهـ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَلَا تَجِبُ نَفَقَةٌ مَضَتْ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا) قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى النَّسَفِيَّةِ وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَةَ الْعِدَّةِ فَلَمْ تَأْخُذْ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ هَلْ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ كَمَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَسْقُطُ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ إذَا فَرَضَ الْقَاضِي لِلْمَرْأَةِ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ فَلَمْ تَسْتَوْفِ حَتَّى مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ تَسْقُطُ، وَكَذَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ. اهـ. (قَوْلُهُ إذَا مَضَتْ مُدَّةٌ، وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا الزَّوْجُ فَلَا شَيْءَ لَهَا) يَعْنِي بِأَنْ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَامْتَنَعَ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ فَلَا تُمْلَكُ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِفَرْضٍ أَوْ بِاصْطِلَاحِهِمَا عَلَى مِقْدَارٍ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إذَا لَمْ يُعْطِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ إلَّا إنْ كَانَتْ أَكَلَتْ مَعَهُ بَعْدَ الْفَرْضِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمُضِيِّ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْأَصَحِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَصِيرُ دَيْنًا بِلَا قَضَاءٍ وَلَا رِضًا) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ اهـ ع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015