وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ كَانُوا مَعَهُنَّ فَلَا يَلْزَمُنَا حُجَّةٌ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتُنْكَحُ الْمُهَاجِرَةُ الْحَائِلُ بِلَا عِدَّةٍ) أَيْ يَجُوزُ تَزَوُّجُ مَنْ خَرَجَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ صَارَتْ ذِمِّيَّةً وَقَيَّدَهُ بِكَوْنِهَا حَائِلًا؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَا يَجُوزُ تَزَوُّجُهَا حَتَّى تَضَعَ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَارَقَتْ زَوْجَهَا بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَفُرْقَتُهَا وَقَعَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَتَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ كَالْمُطَلَّقَةِ فِي دَارِنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ الشَّرْعِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ مَاءُ رَجُلَيْنِ فِي رَحِمِهَا وَذَلِكَ مُحْتَرَمٌ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُهُ إلَى سَنَتَيْنِ بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهِيَ حَرْبِيَّةٌ، ثُمَّ خَرَجَتْ إلَيْنَا حَيْثُ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْعِدَّةِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُخَاطَبَةٍ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا بِخِلَافِ الْمَسْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ حِلَّهَا لِلسَّابِي دَلِيلٌ عَلَى فَرَاغِ رَحِمِهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فَأَبَاحَ نِكَاحَ الْمُهَاجِرَةِ مُطْلَقًا فَتَقْيِيدُهُ بِمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ زِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فَمَنْ مَنَعَ فَقَدْ أَمْسَكَ؛ وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ وَقَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَلَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ كَمَا فِي الْمَسْبِيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ، فَيَكُونُ مُنَافِيًا لِأَثَرِهِ وَالْعِدَّةُ مِنْ أَثَرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ حَقًّا لِلزَّوْجِ وَلَا حُرْمَةَ لِلْحَرْبِيِّ حَتَّى أُلْحِقَ بِالْجَمَادِ وَصَارَ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ فَكَيْفَ يَكُونُ لِمِلْكِهِ حُرْمَةٌ وَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ الثَّابِتَ بِالْمِلْكِ حَقُّهُ لَا حَقُّ الشَّرْعِ لِوُجُودِ الْمُنَافِي، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَا نَقُولُ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ النِّكَاحَ كَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا حَبِلَتْ مِنْ مَوْلَاهَا لَا يُزَوِّجُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الْحَرْبِيِّ فَكَانَ كَالزَّانِي.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ فَكَانَ الرَّحِمُ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ بِخِلَافِ الْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا فَإِنْ قِيلَ أَبْلَغُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْحُرْمَةِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فِي حُكْمِ السُّقُوطِ بِالْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ لَا تَسْقُطُ الْعِدَّةُ فَكَذَا بِالتَّبَايُنِ قُلْنَا إنَّ الْمَوْتَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحُرُمَاتِ أَصْلًا فَإِنَّ التَّرِكَةَ مُبْقَاةٌ عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ وَإِنَّمَا أَسْقَطَ بِالْمَوْتِ الْحُرْمَةَ فِي حَقِيقَةِ صِفَةِ مَالِكِيَّتِهِ وَذَلِكَ مُنْقَطِعٌ بِالْمَوْتِ حَتَّى لَا تَصِحَّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَحْدَهَا أَمْ مَعَ زَوْجٍ، وَأَمَّا الْمُشْتَرَاةُ مُتَزَوِّجَةً فَخَارِجَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا سِوَاهَا دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَسْبِيَّةَ مَعَ زَوْجِهَا تَخُصُّ أَيْضًا بِدَلِيلِنَا وَبِمَا نَذْكُرُ وَتَبْقَى الْمَسْبِيَّةُ وَحْدَهَا ذَاتَ بَعْلٍ وَبِلَا بَعْلٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ وَتَنْكِحُ الْمُهَاجِرَةُ إلَخْ مَا نَصُّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُكْمٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَى حُكْمِ بَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ إذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُهَاجِرًا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَهَذِهِ إذَا كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ اتِّفَاقًا هَلْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ فِيهَا خِلَافٌ اهـ. كَمَالٌ
(قَوْلُهُ: وَتَنْكِحُ الْمُهَاجِرَةُ) أَيْ تَارِكَةُ الدَّارِ إلَى أُخْرَى عَلَى عَزْمِ عَدَمِ الْعَوْدِ بِأَنْ تَخْرُجَ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَخْ)، ثُمَّ اخْتَلَفَا لَوْ خَرَجَ بَعْدَهَا وَهِيَ بَعْدُ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا هَلْ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَقَعُ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا وَقَعَتْ بِالتَّنَافِي لَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِيرُ وَهُوَ أَوْجَهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَحْرَمِيَّةً لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَا يَحْتَاجُ زَوْجُهَا فِي تَزَوُّجِهَا إذَا أَسْلَمَ إلَى زَوْجٍ آخَرَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ اهـ.
فَتْحٌ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ: وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَنَّ الْحَرْبِيَّةَ إذَا دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْ الْحَرْبِيَّ وَلَدُهَا عِنْدَهُ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ إلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إلَى سَنَتَيْنِ لِقِيَامِ الْعِدَّةِ. قَيَّدَ بِالْمُهَاجِرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَاجَرَ زَوْجُهَا لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ اتِّفَاقًا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَأَرْبَعًا سِوَاهَا فِي الْحَالِ اتِّفَاقًا مِنْ الْحَقَائِقِ اهـ.
ابْنُ فِرِشْتَا (قَوْلُهُ: وَفُرْقَتُهَا وَقَعَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَخْ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا (قَوْلُهُ: فَتَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ) أَيْ حَقُّهَا لِلشَّرْعِ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: كَالْمُطَلَّقَةِ فِي دَارِنَا) أَيْ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ اهـ. (قَوْلُهُ: حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُهُ إلَى سَنَتَيْنِ) أَيْ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ اهـ.
ابْنُ فِرِشْتَا (قَوْلُهُ: لِأَنَّ حِلَّهَا لِلسَّابِي دَلِيلٌ عَلَى فَرَاغِ رَحِمِهَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ بِخِلَافِ الْمَسْبِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُرَّةٍ وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ أَنَّهَا تَحِلُّ لِلسَّابِي وَحِلُّ الْوَطْءِ دَلِيلُ فَرَاغِ الرَّحِمِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْعِدَّةِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَجِبُ عَلَيْهَا بِحَيْضَةٍ، وَفَرَاغُ الرَّحِمِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْعِدَّةِ يَحْصُلُ بِالِاسْتِبْرَاءِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْعِدَّةِ اهـ. (قَوْلُهُ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] جَمْعُ كَافِرَةٍ فَلَوْ شُرِطَتْ الْعِدَّةُ لَزِمَ التَّمَسُّكُ بِعُقْدَةِ نِكَاحِهِنَّ الْمَوْجُودَةِ فِي حَالِ كُفْرِهِنَّ وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُهُمَا: وَجَبَتْ لِحَقِّ الشَّرْعِ كَيْ لَا تَخْتَلِطَ الْمِيَاهُ اهـ.
كَمَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا) وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ الْغَيْرِ يَمْنَعُ الْوَطْءَ مُطْلَقًا وَثَابِتُ النَّسَبِ مُحْتَرَمٌ فَيَمْنَعُ النِّكَاحَ أَيْضًا دُونَ غَيْرِهِ اهـ. اك قَالَ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] إلَى قَوْلِهِ {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، ثُمَّ قَالَ {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فَأَوْجَبَ قَطْعَ الْعِصْمَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِخُرُوجِهَا إلَيْنَا، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43] أَيْ لَا مَانِعَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ الْأَزْوَاجِ لِأَجْلِ الزَّوْجِ الَّذِي كَانَ لَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا نَفْيُ الْعِدَّةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10]؛ لِأَنَّهُ أَبَاحَ نِكَاحَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعِدَّةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فَوَجَبَ عَلَيْنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنْ لَا نَمْنَعَ نِكَاحَهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَوْ اُشْتُرِطَتْ الْعِدَّةَ يَلْزَمُ التَّمَسُّكُ بِعَقْدِ نِكَاحِهِنَّ حَالَ كُفْرِهِنَّ فَلَا يَجُوزُ اهـ.