الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ طَلَاقًا بِخِلَافِ إبَائِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ مِنْهَا حَتَّى يَنُوبَ الْقَاضِي مَنَابَهَا وَبِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ فِيهِ لَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَبِخِلَافِ رِدَّتِهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِيهَا لِلتَّنَافِي، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَا تُنَافِيهِ بَقَاءً وَلِهَذَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ وَفِي الْإِبَاءِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا يَكُونُ طَلَاقًا عِنْدَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَهِيَ مِنْ أَغْرَبِ الْمَسَائِلِ حَيْثُ يَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْهُمَا وَنَظِيرُهُ إذَا كَانَا مَجْنُونَيْنِ أَوْ كَانَ الْمَجْنُونُ عِنِّينًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ طَلَاقًا اتِّفَاقًا، ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالْإِبَاءِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ تَأَكَّدَ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنْ كَانَ بِإِبَائِهِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ بِإِبَائِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا فَوَّتَتْ الْمُبْدَلَ قَبْلَ تَأَكُّدِ الْبَدَلِ فَأَشْبَهَ الرِّدَّةَ وَالْمُطَاوَعَةَ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ثَمَّةَ) أَيْ فِي دَارِ الْحَرْبِ (لَمْ تَبِنْ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثًا) فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثًا بَانَتْ وَهَذَا الْكَلَامُ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ إذَا لَمْ يَكُونَا كِتَابِيَّيْنِ، وَكَذَا إذَا كَانَا كِتَابِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا وَالْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسْلِمَةُ، وَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَهِيَ كِتَابِيَّةٌ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ مَذْهَبِهِ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا نَفْسُ الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ وَلَا كُفْرُ الْمُصِرِّ وَلَا اخْتِلَافُ الدِّينِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ وَلَكِنْ يُمْكِنُ تَقْرِيرُ السَّبَبِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِالْعَرْضِ حَتَّى إذَا أَبَى يَكُونُ مُفَوِّتًا لِلْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِانْقِطَاعِ الْوَلَايَةِ فَأُقِيمَ شَرْطُ الْفُرْقَةِ وَهُوَ مُضِيُّ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ مَقَامَ السَّبَبِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ إذَا وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَلَمْ يُمْكِنْ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ فَأُضِيفَ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْحَفْرُ فَكَذَا هُنَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى الْفُرْقَةِ تَخْلِيصًا لِلْمُسْلِمَةِ مِنْ ذُلِّ الْكُفْرِ فَأَقَمْنَا شَرْطَ الْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَقَامَ عُرْضَاتِ الْقَاضِي وَتَفْرِيقِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ وَهَذِهِ الْحِيَضُ لَا تَكُونُ عِدَّةً وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الْمُهَاجِرَةِ إذَا خَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَسَيَأْتِي الْبَيَانُ فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ إذَا أُوقِعَتْ الْفُرْقَةُ بِمُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ هَلْ يَكُونُ طَلَاقًا أَمْ لَا؟ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ انْصِرَامَ هَذِهِ الْمُدَّةِ جُعِلَ بَدَلًا عَنْ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْبَدَلُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ وَرُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ وَقَعَتْ حُكْمًا لَا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ رِدَّةِ الزَّوْجِ وَمِلْكِهِ امْرَأَتَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَمْضِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ لِعَدَمِ وَلَايَةِ الْقَاضِي عَلَى مَنْ بَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِيمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَضُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِبَاءُ سَبَبًا لِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أُطْلِقَ عَلَيْهِ طَلَاقًا مِنْ بَابِ إطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَهُوَ سَائِغٌ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي أَوَانَ إلْقَاءِ الدَّرْسِ مِنْ الْجَوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ وَإِلَّا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ مَا نَصُّهُ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ طَلَاقًا إذْ كَانَ نَائِبًا عَمَّنْ إلَيْهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيمَا إلَيْهِ التَّفْرِيقُ بِهِ وَاَلَّذِي إلَيْهِ الطَّلَاقُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَاَلَّذِي إلَيْهَا عِنْدَ قُدْرَتِهَا عَلَى الْفُرْقَةِ شَرْعًا الْفَسْخُ فَإِذَا أَبَتْ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهَا فِيمَا إلَيْهَا التَّفْرِيقُ بِهِ فَلَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ إلَّا فَسْخًا فَالْقَاضِي نَابَ مَنَابَهُمَا فِيهِمَا اهـ.
فَتْحٌ (قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْفُرْقَةَ فِيهِمَا إلَخْ) أَيْ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ فِي الْمِلْكِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ لِلتَّنَافِي، وَأَمَّا خِيَارُ الْبُلُوغِ فَإِنَّ مِلْكَ الْفُرْقَةِ فِيهِ لِتَطَرُّقِ الْخَلَلِ إلَى الْمَقَاصِدِ بِسَبَبِ قُصُورِ شَفَقَةِ الْعَاقِدِ لِقُصُورِ قَرَابَتِهِ وَعَلَى اعْتِبَارِ تَحَقُّقِ هَذَا التَّطَرُّقِ لَا يَكُونُ لِلنِّكَاحِ انْعِقَادٌ مِنْ الْأَصْلِ فَالْوَجْهُ فِي الْفُرْقَةِ الْكَائِنَةِ عَنْهُ كَوْنُهَا فَسْخًا اهـ. فَتْحٌ بَعْضُهُ بِمَعْنَاهُ.
(قَوْلُهُ: وَنَظِيرُهُ إذَا كَانَا مَجْنُونَيْنِ إلَخْ) ذَكَرَ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَابِ التَّعْلِيقِ أَنَّ الْمَجْنُونَ لَوْ كَانَ عِنِّينًا أَوْ مَجْبُوبًا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَيُجْعَلُ طَلَاقًا، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ وَعُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى أَبَوَيْهِ وَأَبَيَا اهـ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ بِإِبَائِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا) أَيْ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا مَهْرٌ اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: فَأَشْبَهَ الرِّدَّةَ) أَيْ رِدَّتَهَا اهـ. (قَوْلُهُ: وَالْمُطَاوَعَةُ) أَيْ مُطَاوَعَةُ ابْنِ زَوْجِهَا مِنْ نَفْسِهَا اهـ. (قَوْلُهُ: حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثًا) أَيْ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ وَإِلَّا فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: مَقَامَ السَّبَبِ) أَيْ سَبَبِ الْفُرْقَةِ اهـ.
وَقَوْلُهُ: سَبَبَ الْفُرْقَةِ كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ سَبَبٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ هُوَ الْإِبَاءُ اهـ. أَكْمَلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ: كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ) يَعْنِي فِي قِيَامِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ إضَافَةُ التَّلَفِ إلَى ثِقَلِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ الَّتِي حُفِرَتْ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ طَبْعِيًّا وَلَا تَعَدِّيَ فِيهِ، ثُمَّ إضَافَتُهُ إلَى السَّبَبِ وَهُوَ الْمَشْيُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ لَا مَحَالَةَ فَأُضِيفَ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ حَفْرُ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعَارِضْهُ الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ وَلَهُ شَبَهٌ بِالْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِهِ وُجُودًا وَفِيهِ تَعَدٍّ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْحَافِرِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ اهـ.
اك (قَوْلُهُ: فَأَقَمْنَا شَرْطَ الْبَيْنُونَةِ) أَيْ وَهُوَ مُضِيُّ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ (قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الْحِيَضُ لَا تَكُونُ عِدَّةً) أَيْ بَلْ لِأَجْلِ الْفُرْقَةِ اهـ. (قَوْلُهُ: وَلِهَذَا يَسْتَوِي إلَخْ)، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّوْجَ فِي صُورَةِ الطَّلَاقِ بَاشَرَ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ السَّبَبُ فِي الْحَالِ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُضِيِّ الْحَيْضِ، وَأَمَّا هَهُنَا فَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْهُ فَاحْتَاجَ إلَى مُضِيِّهَا لِلْفُرْقَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهَا اهـ.
أَكْمَلُ