وَالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيهِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ».
وَكَذَا قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَهُمَا مَوْزُونَانِ وَالْحِنْطَةُ مَكِيلٌ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِمَا لِلْعِلْمِ بِهَا قَطْعًا وَالْجَوْدَةُ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَدَدِيُّ قُلْنَا إنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ، وَمَالِيَّةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُتَسَاوِيَةٌ فَإِنَّ الْفَلْسَ يُمَاثِلُ الْفَلْسَ فِي الْمَالِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ وَلِهَذَا لَا تَتَفَاوَتُ قِيمَةُ آحَادِهِ عُرْفًا فَكَانَتْ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ أَتَمَّ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَوَجَبَ جَبْرُ الْفَائِتِ بِجِنْسِهِ لِكَوْنِهِ مِثْلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: الْمُمَاثَلَةُ تَثْبُتُ فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ أَيْضًا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجِنْسِ لَا يَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الصِّفَةِ كَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ أَنَّ الْقِيمَةَ أَيْضًا لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ فَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْكُلِّ، وَالْمُرَادُ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ غَيْرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمِثْلِيِّ الْمَخْلُوطِ بِخِلَافِ جِنْسِهِ كَالْحِنْطَةِ الْمَخْلُوطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالْخَلِّ الْمَخْلُوطِ بِالزَّيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَوْزُونُ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ كَالْأَوَانِي الْمَصُوغَةِ نَحْوِ الْقُمْقُمِ وَالطَّسْتِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فَإِنْ ادَّعَى هَلَاكَهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَأَظْهَرَهُ ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ ثَابِتٌ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يَقُولُ كَمَا إذَا ادَّعَى الْمَدِينُ الْإِفْلَاسَ، وَلَيْسَ لِحَبْسِهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي كَحَبْسِ الْغَرِيمِ فِي الدَّيْنِ، وَلَوْ ادَّعَى الْغَاصِبُ الْهَلَاكَ عِنْدَ صَاحِبِهِ بَعْدَ الرَّدِّ، وَعَكْسُ الْمَالِكِ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْغَاصِبِ أَوْلَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الرَّدَّ، وَهُوَ عَارِضٌ وَالْبَيِّنَةُ لِمَنْ يَدَّعِي الْعَوَارِضَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيِّنَةُ الْمَالِكِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ وُجُوبَ الضَّمَانِ وَالْآخَرُ يُنْكِرُ وَالْبَيِّنَةُ لِلْإِثْبَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِاتِّفَاقِهِمَا لَكِنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا يَئُولُ إلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَعَدَمِهِ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ لِمَنْ يُثْبِتُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ)؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ، وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْقُولِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فَإِنْ غَصَبَ عَقَارًا، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ)، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَضْمَنُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ بِوَصْفَيْنِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْعَادِيَةِ، وَإِزَالَةِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدَيْنِ الْمُتَدَافَعَتَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ لِتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا فِيهِ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْيَدُ الْعَادِيَةُ لِلْغَاصِبِ انْتَفَتْ الْيَدُ الْمُحِقَّةُ لِلْمَالِكِ ضَرُورَةً، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَيْسَتْ هِيَ إلَّا عِبَارَةً عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَعَدَمُ الْيَدِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فَكَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَرُورَةٌ، وَمِنْ ضَرُورَتِهَا انْتِفَاءُ يَدِ الْمَالِكِ فَيَضْمَنُ بِهِ كَمَا يَضْمَنُ الْمَنْقُولَ بِذَلِكَ، وَكَمَا يَضْمَنُ الْعَقَارَ الْمُودَعُ بِالْجُحُودِ وَبِالْإِقْرَارِ بِهِ لِغَيْرِ الْمَالِكِ وَبِالرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْغَصْبُ، وَلَنَا أَنَّ الْغَصْبَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَغْصُوبِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ، وَإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالْعَقَارِ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَأَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِيهِ إخْرَاجُ الْمَالِكِ عَنْهُ، وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِكِ لَا فِي الْعَقَارِ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا إذَا أَبْعَدَ الْمَالِكُ عَنْ الْمَوَاشِي عَلَى مَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ.
وَمَسْأَلَةُ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَصَحِّ فَلَا تَلْزَمُ، وَلَئِنْ سَلَّمَ فَالضَّمَانُ فِيهَا بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ بِالْجُحُودِ، وَالشُّهُودُ إنَّمَا يَضْمَنُونَ الْعَقَارَ بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الشَّاهِدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ لَهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَلَوْ كَانَ غَصْبًا لَقُبِلَتْ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ، وَكَلَامُنَا فِي الضَّمَانِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ جَمِيعُ جَزَائِهِ، وَلَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَبَيَّنَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ أَمَسُّ وَزِيَادَةُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ تَكُونُ نَسْخًا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْغَصْبِ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ غَصْبِ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ الْحُرِّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ بَاعَ حُرًّا الْحَدِيثَ، لَا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ بَيْعِ الْحُرِّ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لَوْ بَاعَ الْعَقَارَ بَعْدَ الْغَصْبِ، وَأَقَرَّ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ، وَكَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ غَصْبٍ، وَأَقَرَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: وَالْمِثْلِيُّ الْمَخْلُوطُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ مَعْنَاهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ أَيْ مَعْنَى مَا لَا مِثْلَ لَهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: وَهَذَا تَفْسِيرٌ عَجِيبٌ مِنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ الْكُلِّيِّ بِالْجُزْئِيِّ؛ لِأَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ يَشْمَلُ الْحَيَوَانَاتِ وَالذَّرْعِيَّاتِ، وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَفَاوِتُ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَالْوَزْنِيُّ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ مَضَرَّةٌ، وَهُوَ الْمَصُوغُ مِنْهُ. اهـ