قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أَوْ مِثْلُهُ إنْ هَلَكَ، وَهُوَ مِثْلِيٌّ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْمَغْصُوبِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَهَلَكَ عِنْدَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ ثَابِتٌ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُمَا بِإِيجَابِ الْمِثْلِ فَكَانَ أَعْدَلَ، وَأَتَمَّ فِي جَبْرِ الْفَائِتِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْقِيمَةِ وَاسْمُهُ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمِثْلَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ إيجَابُهُ أَعْدَلَ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ إنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِيمَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَهِيَ الْقِيمَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَعْدَلُ وَتَسْمِيَتُهُ فِي الْآيَةِ اعْتِدَاءً مَجَازٌ لِلْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَالْجَزَاءُ لَيْسَ بِسَيِّئَةٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَا مَجَازًا كَذَا هُنَا الثَّانِي لَيْسَ بِاعْتِدَاءٍ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِنْ انْصَرَمَ الْمِثْلِيُّ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ) أَيْ إنْ انْقَطَعَ الْمِثْلِيُّ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمَ الْغَصْبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمَ الِانْقِطَاعِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُوَ الْوَاجِبُ بِغَصْبِ ذَاتِ الْمِثْلِ فَلَا يُنْتَقَلُ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ وَالْعَجْزُ عَنْهُ يَحْصُلُ بِالِانْقِطَاعِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَئِذٍ.

وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ أَعْدَلُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا يُصَارُ إلَى الْقِيمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِقُصُورِهَا فَلَا تَجِبُ قَبْلَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا خَلَفٌ عَنْهُ، وَلَا يَبْقَى وُجُوبُ الْمِثْلِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ لِلْعَجْزِ عَنْهُ فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمِثْلِيَّ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِذَوَاتِ الْقِيَمِ، وَفِيهَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ فَكَذَا فِيمَا الْتَحَقَ بِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلَفٌ عَنْ الْمِثْلِ حَتَّى لَا يُصَارَ إلَيْهَا إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَالْخَلَفُ يَجِبُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا بِالْغَصْبِ كَالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيِّ، وَكَالْقِيمَةِ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمِثْلَ هُوَ الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ، وَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ وَلِهَذَا لَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يَعُودَ الْمِثْلُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى الْمِثْلِ بِوُجُودِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ الِانْتِقَالِ وَحَدُّ الِانْقِطَاعِ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي الْبُيُوتِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى أَبِي بَكْرٍ الْبَلْخِيّ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ) أَيْ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَهُوَ الْكَامِلُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْمِثْلِ مَعْنًى، وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَهُ وَيَحْصُلُ بِهَا مِثْلُهُ وَاسْمُهَا يُنْبِئُ عَنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ يُضْمَنُ مِثْلُهُ صُورَةً لِمَا تَلَوْنَا وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ «أَنَسًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كُنْت فِي حُجْرَةِ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ فَأُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ مِنْ عِنْدِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَانْكَسَرَتْ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ جَاءَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِقَصْعَةٍ مِثْلِ تِلْكَ الْقَصْعَةِ فَرَدَّتْهَا وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ يَفُكُّ الْغُلَامَ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةَ بِالْجَارِيَةِ، وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ»، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ حَيْثُ أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُعْتِقِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَعَلَى الْعَبْدِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا.

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْمُرُوءَةِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ لَا عَلَى طَرِيقِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إذْ كَانَتْ الْقَصْعَتَانِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَفُكُّ الْغُلَامَ بِالْغُلَامِ أَيْ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ حَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ أَيْ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَضَيَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِالْقِيمَةِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْآيَةُ لَا تُنَافِي مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا الْمِثْلُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْقِيمَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَتْ الْآيَةُ شَاهِدَةً لَنَا، وَهَذَا الْمِثْلُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ لَا الْمِثْلُ صُورَةً بِلَا مَعْنًى؛ وَلِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ كَسَرَ عَصًا فَهِيَ لَهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَمَا قَالَ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ فَهِمَهُ مِنْ الْآيَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِيِّ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ مِثْلُهُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ حَتَّى يُضْمَنَ مِثْلُهُ عَدَدًا خِلَافًا لِزُفَرَ هُوَ يَقُولُ إنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْمَعْدُودِ لَمْ تَثْبُتْ بِالنَّصِّ بِالِاجْتِهَادِ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فَلَا يُقْطَعُ بِكَوْنِ الْمَضْمُونِ مِثْلًا لِلْمُتْلَفِ فَيُصَارُ إلَى قِيمَتِهِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ مِثْلِهِ قَطْعًا بِخِلَافِ الْمَكِيلِ

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَهُوَ مِثْلِيٌّ) مِثْلُ الْمَكِيلِ وَالْمُوزِنِ وَالْمَعْدُودِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ. اهـ أَتْقَانِيٌّ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَنْقُولٍ كَالْحَانُوتِ وَالدَّارِ وَالْأَرْضِ وَالْكَرْمِ وَغَيْرِهَا أَوْ يَكُونُ مَنْقُولًا وَالْمَنْقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلِيًّا كَالْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ الَّذِي لَيْسَ فِي تَبْعِيضِهِ مَضَرَّةٌ (قَوْلُهُ: وَقَالَ مُحَمَّدٌ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَنَحْنُ نَأْخُذُ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. اهـ.

(قَوْلُهُ: وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ إلَخْ) وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ مَا لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: حَتَّى يُضْمَنَ مِثْلُهُ عَدَدًا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَّا الْمَعْدُودَاتُ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ فَعَلَى مُسْتَهْلِكِهَا مِثْلُهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ قِيمَتُهَا وَهَذَا فَرْعٌ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ. اهـ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015