يَنْظُرُ إنْ كَانَ جِنَايَةً يَجْزِي فِيهَا الصَّوْمُ كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ عَنْ أَذًى وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُمَكَّنُ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ بَلْ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ جِنَايَةً لَا يَجْزِي فِيهَا الصَّوْمُ كَالْحَلْقِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالتَّطَيُّبِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَلَكِنْ لَا يُمَكَّنُ مِنْ التَّكْفِيرِ فِي الْحَالِ بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا بِمَنْزِلَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ مَالًا أَوْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَذَا لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا، وَإِنْ أَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ وَصِيَّتُهُ كَمَا فِي تَبَرُّعَاتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ كَيْ لَا يُتْلِفَ مَالَهُ وَيَبْقَى كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ فِيمَا يُتْلِفُ جَمِيعَ مَالِهِ لَا فِيمَا يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَالَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ مَالِهِ، وَفِيهَا مَا فِيهَا مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالذِّكْرِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالْجَمِيلِ هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ مُوَافِقَةً لِوَصَايَا أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ نَحْوَ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ أَوْ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْتَحْسِنُهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْوَصِيَّةِ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَوْقَافِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ.

وَأَمَّا إذَا أَوْصَى بِوَصَايَا يَسْتَقْبِحُهُ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَنْفُذُ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَحْجُورُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ فِي مَالِ الصَّبِيِّ جَائِزٌ، وَفِي مَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ وَالثَّانِي أَنَّ إعْتَاقَ الْمَحْجُورِ وَتَدْبِيرَهُ وَطَلَاقَهُ وَنِكَاحَهُ جَائِزٌ وَمِنْ الصَّبِيِّ بَاطِلٌ وَالثَّالِثُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ إذَا أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ جَازَتْ وَصِيَّتُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَمِنْ الصَّبِيِّ لَا تَجُوزُ وَالرَّابِعُ جَارِيَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَمِنْ الصَّبِيِّ لَا يَثْبُتُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِسْقٍ) أَيْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ فِسْقٍ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا بِسَفَهٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ كَالسَّفِيهِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَى إسْرَافِهِ وَالْفَاسِقُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهُ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَعِنْدَهُمَا حَجْرُ السَّفِيهِ لِلنَّظَرِ لَهُ صِيَانَةً لِمَالِهِ وَالْفَاسِقُ مُصْلِحٌ لِمَالِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]؛ لِأَنَّ رُشْدًا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ فَتَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ؛ لِأَنَّ الرُّشْدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْإِصْلَاحُ فِي الْمَالِ دُونَ الْإِصْلَاحِ فِي الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَأَيُّ فِسْقٍ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْفِسْقُ مُوجِبًا لِلْحَجْرِ لَحَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ عَلَى الْكَافِرِ إذْ هُوَ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْفِسْقِ وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَغَفْلَةٍ) أَيْ لَا يُحْجَرُ عَلَى الْغَافِلِ بِسَبَبِ غَفْلَةٍ وَهُوَ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ وَلَا يَقْصِدُهُ لَكِنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ فَيُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالسَّفِيهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ قَالَ مُحَمَّدٌ الْمَحْجُورُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: وَقَدْ اشْتَغَلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْحَجْرِ إلَى آخِرِ الْكِتَابِ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى مَذْهَبِهِ فَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَأَجَازَهُ الْحَاكِمُ يَجُوزُ وَمَا لَا فَلَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ لَيْسَتْ بِبَاطِلَةٍ بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا مَصْلَحَةً فَإِذَا رَأَى الْقَاضِي وُقُوعَهَا مَصْلَحَةً يُجِيزُهَا وَإِلَّا يَرُدُّهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ إلَّا أَنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي خِصَالٍ أَرْبَعَةٍ لَا يَجُوزُ لِوَصِيِّهِ وَلَا لِأَبِيهِ أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ مَالَهُ وَلَا يَشْتَرِيَ لَهُ إلَّا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ وَفِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ يَمْلِكُ ذَلِكَ وَصِيُّهُ وَأَبُوهُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَمْلِكُ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ التَّصَرُّفَ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْقَرِيبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْقَاضِي فَنَقُولُ إنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ عَلَى الْعَاجِزِ وَهَذَا قَادِرٌ وَلَكِنْ مَعَ قُدْرَتِهِ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ تَأْدِيبًا وَتَثْقِيفًا وَوِلَايَةُ التَّأْدِيبِ تَكُونُ لِلْقُضَاةِ وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا جَازَ إعْتَاقُهُ وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ.

وَكَذَا لَوْ دَبَّرَهُ يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَلَوْ مَاتَ عَنْهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَإِعْتَاقُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَا يَصِحُّ أَصْلًا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّ وَصَايَا الْغُلَامِ الَّذِي قَدْ بَلَغَ مُفْسِدًا مِنْ التَّدْبِيرِ وَغَيْرِهِ بَاطِلَةٌ قِيَاسًا وَلَكِنْ نَسْتَحْسِنُ أَنَّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ مِنْهَا وَمَا تَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَكُونُ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْفِسْقِ جَائِزٌ كَمَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ غَيْرِهِ وَمَا يَكُونُ سَفَهًا لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا وَصَايَا الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَا تَجُوزُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ فَسَادَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَفَسَادُ هَذَا لِسَفَهِهِ فَمَا وَافَقَ الْحَقَّ لَا يُوصَفُ بِالسَّفَهِ فَيَنْفُذُ وَمَا خَالَفَهُ يُرَدُّ، وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَإِنْ مَاتَتْ كَانَتْ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيلَادِ، كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي فَأَمَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ ذَكَرَ فِي مَبْسُوطِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ فَقَالَ: يَجُوزُ نِكَاحُ السَّفِيهِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَيَجُوزُ طَلَاقُ السَّفِيهِ وَلَا يَجُوزُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَصَايَا وَادِّعَاءَ الْوَلَدِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْخِصَالُ الَّتِي افْتَرَقَ فِيهَا السَّفِيهُ وَالصَّبِيُّ سِتَّةً اهـ.

(قَوْلُهُ وَمِنْ الصَّبِيِّ لَا تَجُوزُ) قَالَ قَارِئُ الْهِدَايَةِ وَمِنْ خَطِّهِ نُقِلَتْ فِيهِ نَظَرٌ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اهـ مَا نَقَلْته مِنْ خَطِّ قَارِئِ الْهِدَايَةِ وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَنَا كَمَا تَصِحُّ وَصَايَا الْمَحْجُورِ بِالسَّفَهِ تَجُوزُ وَصَايَا الصَّبِيِّ إذَا عَقَلَ مَا يَصْنَعُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ إلَّا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ وَلِوَصِيِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ السَّفِيهِ الْبَالِغِ، وَثَانِيهَا أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ السَّفِيهِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِلَا إذْنٍ وَثَالِثُهَا أَنَّ طَلَاقَ السَّفِيهِ وَعَتَاقَهُ يَصِحُّ وَفِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَا يَصِحُّ وَرَابِعُهَا يَصِحُّ لِلسَّفِيهِ تَدْبِيرُ عَبْدِهِ وَلِلصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَا يَصِحُّ الْكُلُّ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَالْمُغْنِي. اهـ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015