صِيَانَةً لِمَالِهِ وَنَظَرًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ مُنْقِذٍ طَلَبُوا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، قُلْنَا: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُجِبْهُمْ إلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ «قُلْ لَا خِلَابَةَ» الْحَدِيثَ، وَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا لَأَجَابَهُمْ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُمْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ قُلْنَا: النَّفْيُ لَا يُحَاطُ بِالْعِلْمِ وَلَعَلَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا وَعَدَمُ النَّقْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فَكَمْ مِنْ وَاقِعَاتٍ لَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَمَا نُقِلَ إلَيْنَا مِنْ عَدَمِ إجَابَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لَهُمْ بِالْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَدَيْنٍ وَإِنْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ) أَيْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ دَيْنٍ، وَلَوْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ وَإِلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِهِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وَلَا يَتَصَرَّفُ الْحَاكِمُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتَّرَاضِي بِالنَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَحُبِسَ لِيَبِيعَ مَالَهُ فِي دَيْنِهِ)؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَالْمُمَاطَلَةُ ظُلْمٌ فَيَحْبِسُهُ الْحَاكِمُ دَفْعًا لِظُلْمِهِ وَإِيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إكْرَاهًا عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَبْسِ الْحَمْلُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ إنْ شَاءَ بِبَيْعِ مَالِهِ وَإِنْ شَاءَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إكْرَاهًا عَلَى الْبَيْعِ عَيْنًا، وَقَالَا: إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ وَمَنَعَهُ مِنْ تَصَرُّفٍ يَضُرُّ بِالْغُرَمَاءِ كَالْإِقْرَارِ وَبَيْعُهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «مُعَاذًا رَكِبَهُ دَيْنٌ فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ» وَلِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ كَيْ لَا يَلْحَقَ بِهِمْ الضَّرَرُ بِالْإِقْرَارِ وَالتَّلْجِئَةِ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ إنْسَانٍ عَظِيمٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِزَاعُ مِنْهُ أَوْ بِالْإِقْرَارِ لَهُ ثُمَّ يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى مَا كَانَ.

وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِإِيفَاءِ دَيْنِهِ حَتَّى يُحْبَسَ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْإِبَاءِ عَنْ الْإِسْلَامِ قُلْنَا التَّلْجِئَةُ مَوْهُومَةٌ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْبَيْعُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُعَيَّنٍ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْإِبَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ وَالْبَيْعُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهُ كَالْمَدْيُونِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُؤَجِّرُهُ لِيَقْضِيَ مِنْ أُجْرَتِهِ الدَّيْنَ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ لَا يَتَزَوَّجُهَا لِيَقْضِيَ دَيْنَهَا مِنْ مَهْرِهَا وَالْحَبْسُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ شَاءَ مِنْ اسْتِقْرَاضٍ وَاتِّهَابٍ وَسُؤَالِ صَدَقَةٍ وَبَيْعِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ لَا لِيَبِيعَ فَقَطْ وَلِأَنَّ بَيْعَ مَالِهِ لَوْ جَازَ لِلْقَاضِي لَمَا جَازَ لَهُ حَبْسُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِهِمَا بِتَعْذِيبِ الْمَدِينِ وَتَأْخِيرِ حَقِّ الطَّالِبِ بِلَا فَائِدَةٍ فَيَكُونُ ظَالِمًا وَبَيْعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَ مُعَاذٌ كَانَ بِإِذْنِهِ اسْتَعَانَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَيْعَ مَالِهِ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَأْمُرَهُ وَيَأْبَى وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاشَاهُ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْبَيْعِ التَّرَاضِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا فَكَانَ فِعْلُ الْحَاكِمِ بَاطِلًا.

وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» وَنَفْسُهُ لَا تَطِيبُ بِفِعْلِ الْقَاضِي بِغَيْرِ رِضَاهُ فَصَارَ كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ مَالُهُ وَدَيْنُهُ دَرَاهِمَ قَضَى بِلَا أَمْرِهِ)، وَكَذَا إذَا كَانَ كِلَاهُمَا دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِيَدِهِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَدِينِ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ، قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ دَيْنُهُ دَرَاهِمُ وَلَهُ دَنَانِيرُ أَوْ بِالْعَكْسِ بِيعَ فِي دَيْنِهِ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى فَاسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْقَاضِي بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَصَارَ كَالْعُرُوضِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ جِنْسًا فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ مُخْتَلِفَانِ فِي الصُّورَةِ وَحُكْمًا أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا رِبَا الْفَضْلِ لِاخْتِلَافِهِمَا فَبِالنَّظَرِ إلَى الِاتِّحَادِ يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ وَبِالنَّظَرِ إلَى الِاخْتِلَافِ يُسْلَبُ عَنْ الدَّائِنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ تَتَعَلَّقُ بِصُوَرِهَا وَأَعْيَانِهَا وَلَيْسَ لِلْقَاضِي

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ) وَإِنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ حُبِسَ لِبَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَشْتَرِي إلَّا بِثَمَنٍ قَلِيلٍ. اهـ. قُنْيَةٌ (قَوْلُهُ وَقَالَا إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ إلَخْ) وَلَا يَعْمَلُ الْحَجْرُ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَالِ بِخِلَافِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ السَّفَهِ حَيْثُ يَعُمُّ الْمَوْجُودَ وَالْحَادِثَ اهـ فَتَاوَى تُمُرْتَاشٍ فِي الْقَضَاءِ (قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ) أَيْ بَيْعَ تَلْجِئَةٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: التَّلْجِئَةُ أَنْ يُلْجِئَك أَيْ يَضْطَرَّك وَيُكْرِهَك أَمْرٌ إلَى أَنْ تَأْتِيَ أَمْرًا بَاطِنُهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015