مُبَاحًا حَقِيقَةً، وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الْجِنَايَةَ فِي الرُّخْصَةِ مَوْجُودَةٌ وَإِنَّمَا انْتَفَتْ الْعُقُوبَةُ فَقَطْ كَالْعَفْوِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْدِمُ الْجِنَايَةَ وَإِنَّمَا يُسْقِطُ الْمُؤَاخَذَةَ فَقَطْ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ صَبَرَ فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَعَلَى الْكُفْرِ وَإِتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِقَتْلٍ وَقَطْعٍ لَا بِغَيْرِهِمَا يُرَخَّصُ) أَيْ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ إتْلَافِ مَالِ إنْسَانٍ بِشَيْءٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أَعْضَائِهِ كَالْقَتْلِ وَقَطْعِ الْأَطْرَافِ يُرَخَّصُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وَلِحَدِيثِ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ اُبْتُلِيَ بِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك؟ قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، قَالَ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» أَيْ فَعُدْ إلَى الطُّمَأْنِينَةِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا تَفُوتُ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ التَّلَفُّظَ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ بِهِ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ مُفَوِّتًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَعْنَى فَيُرَخَّصُ لَهُ إحْيَاءً لِنَفْسِهِ أَوْ طَرَفِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْعُضْوِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُرَخَّصُ لَهُ قَتْلُ النَّفْسِ لِيَأْكُلَ مِنْهُ وَلَا قَطْعُ عُضْوِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ يُرَخَّصُ لَهُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْكَامِلِ وَهُوَ الْمُلْجِئُ، وَذَلِكَ مِثْلُ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَلَا تُتَصَوَّرُ الْإِبَاحَةُ فِيهِ أَصْلًا وَغَيْرُهُ وَإِنْ احْتَمَلَهُ عَقْلًا لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ سَمْعًا فَالْتَحَقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَيَثْبُتُ بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ رُخْصَةً لَا إبَاحَةً مُطْلَقَةً وَلَا تَثْبُتُ بِغَيْرِ الْمُلْجِئِ كَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْجِئٍ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ إكْرَاهًا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ فَكَيْفَ يَكُونُ إكْرَاهًا فِي الْكُفْرِ وَهُوَ أَعْظَمُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيُثَابُ بِالصَّبْرِ) أَيْ يَكُونُ مَأْجُورًا إنْ صَبَرَ وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ حَتَّى قُتِلَ؛ لِأَنَّ خُبَيْبًا صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صُلِبَ وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ «هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ وَالِامْتِنَاعُ عَزِيمَةٌ، فَإِذَا بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَلِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ كَانَ شَهِيدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَاتَلَ دُونَ مَالِ غَيْرِهِ فَقُتِلَ كَانَ شَهِيدًا، وَلَا يُقَالُ الْكُفْرُ مُسْتَثْنًى فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] كَمَا اسْتَثْنَى الْمَيْتَةَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَرَامًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الِاسْتِثْنَاءُ هُنَا رَاجِعٌ إلَى الْعَذَابِ؛ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ فَيَنْتَفِي الْعَذَابُ دُونَ الْحُرْمَةِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ وَأَخَوَاتِهَا فَإِنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ فِيهِ الْحُرْمَةُ فَتَنْتَفِي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُنَا لَا تَنْتِفِي فَتَبْقَى عَلَى حَالِهَا وَلَكِنْ لَوْ تَرَخَّصَ جَازَ لِمَا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُ بِهِ وَلَا حَقُّ الْعَبْدِ لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ وَالْمُكْرَهُ آلَةٌ لَهُ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَعَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ بِقَتْلٍ لَا يُرَخَّصُ) أَيْ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ بِالْقَتْلِ لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الرُّخْصَةِ خَوْفُ التَّلَفِ وَالْمُكْرَهُ وَالْمُكْرَهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَسَقَطَ الْكُرْهُ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ قَتَلَهُ أَثِمَ)؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَأْثَمُ بِمُبَاشَرَتِهِ وَلِأَنَّ الْإِثْمَ يَكُونُ بِدِينِهِ وَالْمُكْرَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ فِي حَقِّهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَتْلَ النَّفْسِ بِالضَّيَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ وَلَدٌ لَيْسَ لَهُ أَبٌ يُرَبِّيهِ وَلِأَنَّ فِيهِ إفْسَادَ الْفِرَاشِ بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَرْأَةِ حَيْثُ يُرَخَّصُ لَهَا بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ مِنْ جَانِبِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ، وَلِهَذَا أَوْجَبَ الْإِكْرَاهُ الْقَاصِرُ دَرْءَ الْحَدِّ فِي حَقِّهَا دُونَ الرَّجُلِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيُقْتَصُّ مِنْ الْمُكْرِهِ فَقَطْ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْقَاتِلُ هُوَ الْمُكْرَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ، وَكَذَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ يَأْثَمُ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْ الْمُكْرَهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَفْعَالِ أَنْ يُؤَاخَذَ بِهَا فَاعِلُهَا إلَّا إذَا سَقَطَ حُكْمُ فِعْلِهِ شَرْعًا وَأُضِيفَ إلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ سَقَطَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ عَنْ الْفَاعِلِ وَأُضِيفَ إلَى غَيْرِهِ وَهُنَا لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ فِعْلِهِ بَلْ قُرِّرَ حُكْمُ فِعْلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَأْثَمُ إثْمَ الْقَتْلِ، وَإِثْمُ الْقَتْلِ يَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا أَمَّا الْمُكْرَهُ فَلِمَا قَالَهُ زُفَرُ وَأَمَّا الْمُكْرِهُ فَلِحُصُولِ التَّسْبِيبِ مِنْهُ إلَى الْقَتْلِ حَيْثُ أَحْدَثَ فِيهِ مَعْنًى حَامِلًا عَلَى الْقَتْلِ وَالسَّبَبُ التَّامُّ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ خُبَيْبًا) خُبَيْبِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيَّ الْأَوْسِيَّ شَهِدَ بَدْرًا.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْمُكْرَهُ وَالْمُكْرَهُ عَلَيْهِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ فِيهِمَا. اهـ. (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْإِثْمَ يَكُونُ بِدَيْنِهِ) أَيْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى دَيْنِهِ اهـ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015