واستمر الأمر كذلك بعد انتقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرفيق الأعلى، فكان الجهاد هو الذي يقضي على حركات التمرد والشقاق ويجبرهم على الخضوع للإسلام, والانقياد لشرعه، واحترام أهله، فكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مدركا ذلك تماما الإدراك, فكان له مواقف رائعة تدل على فهمه العميق لفقه التمكين، وقدرته الفذة على المحافظة على دولة الإسلام التي أقامها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن أهم المواقف:
إنفاذ جيش أسامة:
لقد ظهر فقه الصديق وحكمته عند إصراره على إرسال جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما من عدة وجوه:
إنفاذه بعث أسامة - رضي الله عنه - على الرغم من شدة الأحوال ومعارضة بعض الصحابة، وذلك امتثالا لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصر على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج، وفشلت كافة المحاولات الهادفة لإقناع الصديق كي يتخلى عن فكرة إرسال جيش أسامة، وعندما كثر الإلحاح على أبي بكر، دعا عامة المهاجرين والأنصار إلى اجتماع المجلس لمذاكرة هذا الأمر معهم, وبيَّن لهم أن إنفاذ جيش أسامة هو مشروع وضعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلينا تنفيذه مهما بلغت الصعاب والمتاعب وقال: «أيها الناس، والله لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنفذت أسامة وجيشه كما أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا راد لقضاء قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته، والله لأن تتخطفني الطير أحب إليَّ من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (?).
ولما أشار بعض الناس على أبي بكر أن يولي أمر الجيش رجلاً أقدم سنًّا من أسامة، غضب لذلك، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي أمر أسامة على هذا الجيش، فلا يريد - رضي الله عنه - أن يغير شيئًا فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأوصى الصديق ذلك الجيش المظفر بهذه الوصايا: «لا تخونوا، ولا