فَرْعٌ: وَلَوْ بَنَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْفِ أَوْ أَصْلَحَ فِيهِ شَيْئًا وَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّا نَحْكُمُ بِوَقْفِيَّتِهِ سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ لِوَرَثَتِهِ، وَلَمْ يَرَ مَا قَالَ مَالِكٌ، وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا أَنَّهُ حَبْسٌ، اُنْظُرْ ابْنَ رَاشِدٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ، لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ وَالْوَصِيَّةَ بِهِ لِأَوْلَادِهِ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إلْحَاقَهُ بِالْحَبْسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّقْلِيدُ فِي الْقِبْلَةِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِهِ تَعْلِيقَةُ الْخِلَافِ. حَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَصَّارِ، قَالَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا دَخَلَ رَجُلٌ بَلَدًا خَرَابًا لَا أَحَدَ فِيهَا وَقَدْ مَضَى وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ تَخْفَ دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ، رَجَعَ إلَى اجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَتْ الْقَرْيَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَلَّى إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَسَاجِدَهُمْ وَآثَارَهُمْ لَا تَخْفَى، وَأَنَّ قِبْلَتَهُمْ وَمَحَارِيبَهُمْ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَحَارِيبَ مَنْصُوبَةً فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامِرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَتَتَكَرَّرُ، وَيُعْلَمُ أَنَّ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ بَنَاهَا فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ يُصَلُّونَ إلَى تِلْكَ الْقِبْلَةِ فَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادٍ وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الَّتِي تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، فَإِنَّ الْعَالِمَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى الْجِهَةِ، فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ صَلَّى إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ إذَا كَانَ بَلَدًا لِلْمُسْلِمِينَ عَامِرًا، لِأَنَّ هَذَا أَقْوَى مِنْ اجْتِهَادِهِ مَعَ خَفَاءِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَيُصَلِّي فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ إذْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهَذَا شَرْطُهُ أَنْ لَا يَشْتَهِرَ الطَّعْنُ فِيهَا كَمُحَارِبِ الْقُرَى وَغَيْرِهَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مَا زَالَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يُنَبِّهُونَ عَلَى فَسَادِهَا، وَلِلزَّيْنِ الدِّمْيَاطِيِّ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ وَلِغَيْرِهِ، وَقَدْ قَصَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَغْيِيرَ مِحْرَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَدْرَسَةِ وَمُصَلَّى خَوْلَانَ، فَعَالَجَهُ مَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مِحْرَابُ الْمَحَلَّةِ مَدِينَةِ الْغَرْبِيَّةِ وَالْفَيُّومِ وَمُنْيَةِ بْنِ خَصِيبٍ، وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهَا عَالِمٌ وَلَا عَامِّيٌّ.