فَرْعٌ: وَسُئِلَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغِ: عَنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ الْتَمَسُوا هِلَالَ شَوَّالٍ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ فِي الْغَيْمِ فَلَمْ يَرَوْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَدِمَتْ رُفْقَةٌ كَبِيرَةٌ نَحْوُ الْأَرْبَعِمِائَةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْقُرْبِ مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا رُؤْيَةً ظَاهِرَةً فَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُدُولِ وَغَيْرِهِمْ لِيَخْتَبِرُوا ذَلِكَ مِنْ الْوَاصِلِينَ قَبْلَ وُصُولِهِمْ الْمَدِينَةَ فَسَأَلُوا خَلْقًا مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ سَأَلْت مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ سَأَلْت مِنْ أَوَّلِ الرُّفْقَةِ إلَى آخِرِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ سَأَلْت خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، حَتَّى قَطَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمُوهُ يَقِينًا وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاقِلِينَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَاتَّفَقَتْ شَهَادَةُ الْكُلِّ عَلَى رُؤْيَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ رُؤْيَةً ظَاهِرَةً فَاشِيَةً، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ وَيُفْطِرُ النَّاسُ وَيُصَلُّونَ صَلَاةَ الْعِيدِ أَمْ لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ وَيَتَمَادَى النَّاسُ عَلَى الصَّوْمِ؟
فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِخَطِّ يَدِهِ قَدْ نَزَلَ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ فِي الْقَيْرَوَانِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ مَوْجُودُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ، وَكَانَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا مِنْ الرُّفْقَةِ الْقَادِمَةِ أَقَلَّ مِنْ الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرْت، فَاتَّفَقَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِمَّنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى إيجَابِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِمْ، وَحَمَلُوا النَّاسَ عَلَى الصَّوْمِ إذْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي نَزَلَ فِي الْقَيْرَوَانِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ وَلَهَا مَدْخَلٌ فِي الْأُصُولِ، إذْ يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ بَابٌ كَبِيرٌ، فَإِذَا وَقَعَ الْعِلْمُ لِسَامِعِ قَوْلِهِمْ وَقَطَعَ لِمَا قَالُوهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إعْرَاضِ مَنْ أَعْرَضَ مِمَّنْ لَا يُحْكِمُ الْأَمْرَ، وَلَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُمَيِّزُ بِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَشْبَاهَهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى ذَهَابِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ.
وَكَتَبَ فِي الْمَسْأَلَةِ جَوَابًا آخَرَ لِكَوْنِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِلْ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ وَذَكَرْت لَك أَنَّ مِثْلَ هَذَا نَزَلَ بِالْقَيْرَوَانِ وَأَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَثِيرٌ، فَجَعَلُوا لِمَنْ سَمِعَ قَوْلَ أَهْلِ الرُّفْقَةِ مِمَّنْ يُمَيِّزُ الْعِلْمَ الْوَاقِعَ فِي النَّفْسِ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ، وَهُمَا رَجُلَانِ عَدْلَانِ، وَقَالَا: وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِمَا قَالَهُ أَهْلُ الرُّفْقَةِ أَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا شَهِدَا بِهِ، هَذَا الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِقَوْلِ أَهْلِ الرُّفْقَةِ أَوْ بِقَوْلِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ لَزِمَ الصَّوْمُ، هَذَا قَوْلُ مَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ مِنْ شُيُوخِنَا.
وَسُئِلَ اللَّخْمِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِصِحَّةِ الْجَوَابِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ