وفي عصرنا هذا كثر المشاهير من أهل الحق ومن أهل الباطل، وبالغ الناس فيهم، خاصة مبالغات في أهل الباطل، والمؤمن التقي العاقل الذي يعلم ويتلو كتاب الله حقاً لا يقبل أن يعظم في قلبه إلا الله، فالقلب -يا أخي- مثل الكعبة، فالكعبة لا يليق بأن يكون عليها صور؛ لأنها بيت الله، وقلب المؤمن لا ينبغي أن يعلق بأحد إلا بربه جل وعلا أو من أمرنا الله جل وعلا بأن نحبه، كنبينا صلى الله عليه وسلم، فنحن نحبه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه، ولا يمكن أن يرقى حبنا له إلى درجة حبنا لربنا تبارك وتعالى، كما أن المبالغة في مدح أهل الحق قد يدخلهم في الفتن، وهذا حاصل في عصرنا، فإن الإنسان من طلبة العلم يحمد له حبه للعلماء وحبه للدعاة، وهذا شيء من فضائل الأمور، ولكن لا تحسن المبالغة في تعظيم الدعاة ولا العلماء ولا المدرسين ولا غيرهم مبالغة يتجاوزون بها عن الحد؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وربما أعجبت الإنسان نفسه من كثرة مبالغة الناس في تعظيمهم له وثنائهم عليه وتقبيلهم لرأسه يوما بعد يوم ومرحلة بعد مرحلة، فيدخله -والعياذ بالله- ما يدخله مما يكون سبباً في هدم دينه وهدم دين أتباعه.
وقد ذكر بعض العلماء الثقات رحمهم الله تعالى أن رجلاً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يظن نفسه أنه من أولياء الله وهو من أصحاب الطرائق المذمومة، فرآه رجل من العامة كان يجلس بجانب هذا العالم المتوفى الذي كتب هذا بيده، فلما جاء هذا الرجل قام هذا العامي وأجلس هذا الرجل مكانه، فلما فرغت الصلاة -وكان هذا في الحرم النبوي- قال هذا العالم وهو من أساطين العلماء: يا هذا! لا تقم مرة أخرى من مقامك في الحرم لأحد ولو كان القادم أبا بكر وعمر.
قالها للعامي والرجل يسمع، فقال العامي هذا أفضل ممن ذكرت! أي: أفضل من أبي بكر وعمر! وكان ذلك الرجل يسمع ولا ينكر شيئاً عياذا بالله، فهذا الذي قال عامي جاهل، وهذا الذي قبل هذا إنما قبله لمبالغات الناس وثنائهم حتى وصل إلى هذه المرحلة فصدق كذب الناس.
ومن هذا يفهم أنه أحياناً بعد الدرس يقوم بعض الطلاب جزاهم الله خيراً يسلمون ويقبلون رأس العالم، وهذا لا داعي إليه، فإذا كان ولا بد من أن تسلم على الشيخ فصافحه، إلا إذا قدم الإنسان من سفر فلا بأس، لكن أن يقبل كل شيخ بعد كل درس على رأسه أو على غير ذلك فهذا لا يحسن، فهو فتنة للمحاضر وذلة للمتبوع، والعاقل من حرر نفسه وحرر الناس من الرق لأحد سوى الله جل وعلا.