وإذا قلنا على قول العلماء إن: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] بمعنى: المساجد، فهذا ينقلنا إلى مسألة فقهية يبحثها العلماء، وهي: الصلاة في البيوت.
فالصلاة إما أن تكون فرضاً، وإما أن تكون نفلاً.
الصلاة في البيت الصلاة الفرض لابد أن تكون وين؟ في المساجد، وهذا أمر ينبغي أن يرفع الخلاف فيه، إلا بعذر.
بقينا في النوافل، النوافل من حيث الجملة تنقسم إلى قسمين: نافلة يجمع لها، ونافلة لا يجمع لها، فالنوافل التي يجمع لها مثل التراويح، والاستسقاء، والكسوف، والخسوف، فهذه تصلى في المساجد أو في المصليات، ولا تصلى في البيوت، ويصح صلاتها في البيوت، لكن الأولى أن تصلى في المساجد.
وأما النوافل التي لا يجمع لها مثل النوافل الرواتب، فهي تصلى في البيوت؛ لحديث البخاري العام أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً) أي: البيوت.
وأوكد ذلك ركعتا المغرب، فهي أوكد الصلوات أن تصلى في البيوت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث كعب بن عجرة عند أبي داود بسند صحيح ذهب إلى بني عبد الأشهل، وهم فخذ من الأوس قوم سعد بن معاذ، فصلى فيهم صلى الله وعليه وسلم المغرب، فلما صلى والتفت قام الناس يسبحون -أي: يصلون النافلة- أي: أن أهل بني عبد الأشهل قاموا يصلوا السنة، فتعجب صلى الله وعليه وسلم وقال: (هذه صلاة البيوت).
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (ما أحصي كم سمعت من النبي صلى الله وعليه وسلم يقرأ في ركعتي المغرب وركعتي الفجر بقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد).
ولو جاء إنسان وقال: هذا حجة على أن ركعتي المغرب تصلى في المسجد،
و صلى الله عليه وسلم أن ابن مسعود كان يدخل ويخرج على رسول الله كثيراً، وهو صاحب سواكه ووضوئه، فكان من الخدم الخاصين بالنبي صلى الله وعليه وسلم، ففقه معرفة أحوال الصحابة تساعد على فهم السيرة وعلى فهم القرآن، وهذا من معطيات التفسير: أن يكون للإنسان علم متنوع حتى يستطيع أن يفهم كلام الله.
فالصلاة النوافل في البيوت أفضل منها في المساجد، لكن إذا كان الإنسان وراءه عمل، أو عنده موعد في زيارة مريض، أو يغادر إلى مكان ماء، ولم يكن بمقدوره أن يرجع إلى البيت، فليس بمعقول أن نقول له: اذهب إلى البيت واخرج صل في المسجد، كمن يجلس في الحرم النبوي بين المغرب والعشاء، لكن هنا نقول: إذا كنت إذا خرجت من المسجد وتعلم أنك ستعود إلى البيت فأد النافلة في البيت باتفاق الأئمة.
ثم قال الله جل وعلا: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88].
الداعي هو موسى، وقال الله بعده: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] فذكر شخصين وهما: موسى وهارون، والذي دعا هو موسى، فكيف عد هارون داعياً؟ لأنه كان يؤمن، فأصبح المأموم في تأمينه يأخذ حكم، وبتعبير أصح: المؤمن في تأمينه يأخذ حكم الداعي؛ لأن الله قال بنص القرآن: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88].
ثم قال جل وعلا: {وَلا تَتَّبِعَانِّ} [يونس:89] لا هنا ناهية، فقد نهاهما أن يتبعا سبيل المفسدين، وبما أنها لا الناهية فكيف وجدت النون، أصل الفعل: تتبعانن، فهناك نونان: نون الأفعال الخمسة، ونون التوكيد، ولما دخلت لا الناهية فإنها تجزم بحذف النون؛ لأنه من فعل مضارع اتصل بألف الاثنين، وحذفت نون وبقيت نون، فالنون الباقية هنا ليست نون الأفعال الخمسة؛ لأنها حذفت، وإنما هي نون التوكيد، {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89].
ثم قال الله جل وعلا: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].
هذه هي الآيات الثلاث إلى قوله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس:91]، من أعظم بلاغة القرآن، وقول الله: {وَجَاوَزْنَا} [الأعراف:138] فالأمر بيد الله، فالذي نجا موسى هو الله، {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:138]، والذي خافه فرعون من موسى أن يُذهب ملكه، ففرعون سمع من الكهنة أن هلاك ملك سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا الرجل الذي أنت تخاف منه والذي هو سيذهب ملكك، هو نفسه شرد وخرج ولم يجلس في مصر، إذاً: كان العقل المفروض أنه ما دام أن الذي أنا أخاف أن يُذهب ملكي هو باختياره خرج، وذهب عني، وهرب وترك مصر كلية، وترك البحر إذاً: فلا يوجد داعي لأن أتبعه، ولذلك قال الله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} [يونس:90]، البغي: هو تجاوز الحد، والعدو: الإصرار على الباطل، ففرعون كان المفروض أن يكون أعقل من هذا، لكن الشر والعدوانية موجودة في قلبه، فلم تطب نفسه حتى يريد أن يهلك موسى، لكن الإنسان إذا غلب عليه التفكير في قضية واحدة فإنه ينسى قضايا كثيرة، ولذلك أحياناً أعرض المشكلة على غيرك؛ لأنك أنت تعيش في شيء مقوقع مهما كان عقلك ورأيك وفضلك، فتنظر بعين واحدة: والعين ترى ما دنا منها ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة فهي ترى ما دنا منه ونأى، وترى البعيد والقريب، لكن العين لا ترى نفسها، ففرعون لما وصل جاوز الله جل وعلا ببني إسرائيل البحر، ومعلوم أن الله أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فانفلق، فلما انفلق أصبح البحر اثني عشر فرقاً، فمر موسى والذين معه، وقلنا مراراً: إن فرعون لم يدخل البحر حتى خرج موسى، فرعون لا يعقل؛ لأنه لما رأى موسى نجا كان من المفروض أن يعلم بداهة أنه يستحيل أن يتحول البحر إلى يابس إلا بقدرة الله، وإن الذي نجا موسى من البحر من الغرق قادر على أن ينجيه منه، فالذي نجى موسى بهذه الطريقة وجعل له البحر يابساً فإنه قادر على أن ينجيه منه، فكان يرعوي ويرتفع، لكن ما زال الانفعال العدواني في قلبه، فنسي حتى هذه، لكنه كما قال الله: بغياً وعدواً.
فلما خرج موسى من البحر كله وفرعون ينظر اطمئن فرعون إلى أن البحر لن يرجع، فأراد موسى -كما قلنا مراراً- أن يضرب البحر، فأمر الله موسى أن يترك البحر على حاله.
قال الله في الدخان: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24] أي: ساكناً، فتركه موسى، فلما تركه موسى اطمئن فرعون على أن البحر سيبقى، فجاء بجيشه، فلما جاء بجيشه أمر الله البحر أن يعود إلى حاله، قال الله: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس:90]، والغرق غير عاقل، وهذا عند البلاغيين يسمى تشخيصاً، وهو أن يعطى غير العاقل حكم العاقل، فالغرق لا يعقل حتى يدرك موسى، وحتى يدرك فرعون بالغرق، لكن الله هنا يصور الموقف على أن هذا الغرق جند من جند الله، له حواس، وله قدرات، وله إمكانات، حتى أضحى يتبع فرعون حتى أدركه وأحاط به من كل جانب، وقلنا: هذا أسلوب عربي يسمى التشخيص.
قال الله: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ} [يونس:90] أي: فرعون، {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فقد آمن، فالله ما أنكر إيمانه، ولكن أنكر وقت الإيمان، ولذلك قال الله بعدها: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} [يونس:91]، وقد جاء في الخبر الصحيح أن جبريل عليه السلام لما سقط فرعون في البحر يغرق جاء جبريل بوحل البحر وأخذ يضعه في فم فرعون، لأنه خشي أن فرعون يثني على الله فتدركه رحمته، وهذا فعله جبريل لسببين: السبب الأول: علم جبريل بعظيم رحمته.
والسبب الثاني قاله جبريل: ففي الحديث الذي رواه الطبراني قال: (يا محمد! ما أبغضت أحداً من خلق الله كبغضي لفرعون عندما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]) فلما قال فرعون لأهل مصر سابقاً: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] أبغضه جبريل، فلما جاء فرعون في هذا الموقف بقي البغض في قلب جبريل، فأخذ يضع الطين في فم فرعون؛ خشية أن يثني على الله ثناءً يستدر به رحمة الله، قال: حتى لا يثني على الله ثناءً فيغفر الله له.
قال الترمذي رحمه الله: والحديث صحيح بالجملة، وصححه كثير من العلماء كـ الألباني والأشقر وغيرهما من علماء الملة.
والذي يعنينا: أن فرعون لم يقبل الله إيمانه؛ لأنه كان إيمان اضطرار لا إيمان اختيار، وقلنا: إن هذه السنة: أن الله لا يقبل إيمان الاضطرار، ولا يقبل إلا إيمان الاختيار، مستثناة في قوم يونس، قال الله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98].
فنعود إلى الآية، قال الله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:91 - 92].