وهذا يسوقنا -من حيث التأصيل العلمي- إلى مسألة النسخ في كلام الرب جل وعلا.
فنقول: اتفق العلماء على جواز نسخ القرآن بالقرآن، وهذا ظاهر لا يمكن رده إلا من متكبر، فالله جل وعلا يقول: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] والمراد صيام رمضان، فالله جل وعلا يقول في القرآن: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: الصيام {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] يعني أن الإنسان الذي يقدر على الصيام ولا يريد أن يصوم يطعم مسكيناً، فهل يجوز هذا الآن!!
و صلى الله عليه وسلم لا يجوز، فهذا منسوخ، فالآية منسوخة حكماً غير منسوخة تلاوة، والدليل على نسخها قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فقول الله جل وعلا: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] نسخ لقوله تبارك وتعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، وهذا كثير، كآية المصابرة وآية المرأة التي توفى عنها زوجها وغير ذلك.
فالاتفاق قائم على نسخ القرآن بالقرآن، وإنما اختلف العلماء رحمهم الله في نسخ القرآن بالسنة.
فبعض العلماء يثبته، وبعض العلماء ينفيه، ولكل حجته، ولكن الذي ندين الله جل وعلا به، والذي عليه أكثر العلماء من المحققين: أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة.
ومن أدلة من قال: إن القرآن لا ينسخ بالسنة -حتى تعلم أن العلماء لا يمكن أن يقولوا بقول جزافاً- قول الله جل وعلا: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106].
قالوا: فالسنة ليست خيراً من القرآن، وليست مثله، والله يقول: بخير منها أو مثلها.
وأجاب القائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة بأن الله قال: (نأتِ) والذي يأتي بذلك هو الله، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتي بحكم شرعي من السنة ينسخ به حكماً في القرآن لا يأتي به من عند نفسه، وإنما يأتي به من عند الله، فلا تعارض بين قول الله جل وعلا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، وبين نسخ القرآن بالسنة.