ثم ذكر الله جل وعلا قوم صالح، وقوم صالح وقوم عاد يتفقان في كونهم عرباً، فعاد وثمود كانوا عرباً، وكذلك قوم شعيب وقوم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد نبي عربي غير هؤلاء الأربعة: صالح، وقد أرسل إلى قوم ثمود، وشعيب، وقد أرسل إلى أصحاب الأيكة إلى مدين، وهود، وقد أرسل إلى عاد، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقد أرسل إلى الناس كافة، وهؤلاء الأربعة هم الأنبياء من العرب فقط، أما غيرهم فليسوا من العرب.
وقوم صالح كانوا يسكنون الحجر، والله يقول: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76]، يعني: في طريق ظاهرة إلى الآن باقية.
قال تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:24].
وقالوا عنه أنه: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:25].
قوله تعالى عنهم: (كذاب أشر)، أي: أن هناك كذاباً يكذب ليفر من معضلة، وهناك كذاباً أشراً، وهو الذي يكذب لينال أمراً عظيماً يترفع به على الناس.
ومثال الأول أن تدخل الدار فتجد في الفناء رجلاً غريباً، فتقبض عليه فتسأله: ماذا تريد؟ ويكون قد أراد السرقة، فلما رآك خاف، فيقول لك: أنا صديق لابنك، أو يقول: أنا ممن يوصلون فواتير الكهرباء أتيت لأضع هنا فواتير الكهرباء، أو يقول أي شيء يتخلص به منك، فهذا كذب ليخلص نفسه؛ لأن هناك شيئاً يدعوه للكذب، حتى يخرج من مأزق وقع فيه.
فقوم ثمود يقولون عن نبي الله صالح نحن نحترمك ونقدرك، كما قال تعالى عنهم: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62]، فهم يقولون: نحترمك ونجلك ونقدرك، ولم تكن في معضلة حتى تكذب علينا وتزعم أنك رسول؛ فإنك لا تزعم أنك رسول إلا لأنك تريد أن تتصدر وتعلو علينا، فأنت -بزعمهم- كذاب أشر، قال الله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر:26]، والسين في قوله (سَيَعْلَمُونَ) للمستقبل القريب.
قال تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر:27].
قوله تعالى: (فِتْنَةً لَهُمْ) أي: اختبار.
وقد طلب قوم صالح آية فأعطاهم الله الناقة، وقال لهم صالح: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، فكانت هذه الناقة تظهر وتغيب، فإذا ظهرت شربت البئر كله، وإذا غابت أتى قوم ثمود فشربوا الماء، ويذهبون إلى الناقة فيحلبونها، قال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر:28]، فقوله: (مُحْتَضَرٌ) بالضاد، بمعنى أن كل قوم يحضرونه.
وقوله تعالى: (كُلُّ شِرْبٍ) أي: كل حظ وقسمة من الماء يحضرها صاحبها إن كانت للناقة وإن كانت لهم.
قال تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29].
قوله تعالى: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ) هو قدار بن سالف، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: إنه أشقى الأولين، والحديث صحيح، ولكن هل كان عقره للناقة برضا منهم أو بعدم رضا؟ والجواب أنه كان برضا منهم؛ لقوله تعالى (فنادوا).
وفي سورة الشمس: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:11 - 14]، فأسند الفعل إلى الجماعة ولم يسنده إلى الفرد، وأخبر تعالى في سورة القمر بأن الذي عقرها واحد، فقال: ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ))، والجمع بين الآيتين أنه عقرها برضاً منهم، وبهذا تستقيم الأدلة.
وأقول: استحضار الآيات عند التفسير مهم، ولذلك يروى أن الحجاج بن يوسف على طغيانه كان يقدر على استحضار القرآن، فقد جاءته امرأة ذات يوم فقالت له: أيها الأمير! اعف عن ولدي؛ فالذي حذف (كلا) من النصف الأول من القرآن إنه لبريء، فمكث دقيقتين يستحضر القرآن، ثم قال: اطلقوا ابنها.
فالقرآن ثلاثون جزءاً، وليس في الخمسة عشر جزءاً الأولى كلها حرف (كلا)، والجزء السادس عشر يبدأ بسورة الكهف، وفي قصة الخضر مع موسى في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67] يبدأ الجزء السادس عشر، وبعدها في مريم، يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} [مريم:77 - 79]، ثم تأتي (كلا) كثير في الأجزاء الأخيرة من القرآن.
فالحجاج استحضر القرآن كله، وهذا فضل من الله، وهذا من أعظم ما يعينك على تفسير الآيات، فإذا جاء معنى اجمع ما يناسبه من القرآن حتى تستطيع الحكم على الآية.
فالله هنا عبر بالمفرد وعبر في الشمس بالجمع، والجمع بينهما أن يكون القوم اختاروا هذا الرجل فقام بما يريدون أن يعملوا به، {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29].