ثم قال سبحانه: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163] وداود هو والد سليمان عليهما السلام، وهذا دلالة كذلك على أن الواو لا تعني الترتيب، وإن كانت هنا قد تكون واواً استئنافية.
وداود أحد أنبياء بني إسرائيل، وهو الذي يسمى عند النصارى اليوم (ديفيد) فـ (كامب ديفيد) معناها (مخيم داود)، وهو أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل، وعلى يديه قتل جالوت، وآتاه الله الكتاب والحكم والنبوة كما قال جل وعلا.
ولما مسح الله جل وعلا -كما عند الترمذي بسند صحيح- على ظهر آدم، وخرج من ظهر آدم ذريته رأى آدم كل نسمة كائنة من ذريته إلى يوم القيامة، فرأى فيهم غلاماً أزهر فيه وبيص، أي: نور بين عينيه، فقال: يا رب! من هذا؟ فقال له ربه: هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان يقال له: داود، فقال: كم جعلت عمره؟ قال: ستين عاماً، فقال: يا رب! زده أربعين.
فقال الله: لا إلا أن يكون من عمرك.
فوافق آدم، وكان الله قد جعل عمر آدم ألف عام، فلما جاء ملك الموت ليقبض آدم نسي آدم أنه أعطى ابنه داود أربعين عاماً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته) فأتم الله الألف لآدم والمائة لداود.
قال الله تعالى عن دود: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] أي: جمع الله له قوة القلب وقوة البدن في الطاعة، فالإنسان أحياناً يكون عنده رغبة في الطاعة، ولكن الكسل يكون بدنياً كمهدود، أو رجل كبير، أو شاب مريض، أو قادم من عمل مظن متعب، فالرغبة لا يطيقها البدن.
وأحياناً يكون الإنسان في عافية وقدرة ولكن ليس له عنده قلب يريد أن يقوم الليل.
فاجتمع في داود قوة القلب على الطاعة وقوة البدن، وهذا من أفضال الله جل وعلا على عباده.
وقد من الله عليه بخصلتين: حسن الصلاة وحسن الصيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود: كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه).
فإذا كان أذان المغرب في السادسة وكان أذان الفجر في الرابعة فإن مقدار الليل هو تسع ساعات، فإذا أراد أحد تطبيق سنة داود عليه السلام فإنه إن نام بعد العشاء بعد ساعتين من دخول المغرب سينام ثلاث ساعات ونصفاً، فسيقوم في الساعة الثانية عشرة والنصف، فيصلي إلى الساعة الثالثة وخمس وعشرين دقيقة، وهذه قلما يطيقها أو يفعلها أحد في عصرنا مرة في العمر، وكان النبي يفعل ذلك كل ليلة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (وأحب الصيام إلى الله صيام داود: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) وتمام الحديث -وهو في الصحيحين-: (وكان لا يفر إذا لاقى) أي: أنه كان يجاهد في سبيل الله ولا يفر صلوات الله وسلامه عليه.
وقد أعطاه الله جل وعلا حسن الصوت، ولذلك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري قال: (أُعطي مزماراً من مزامير آل داود) إذا قرأ الزبور، والزبور هو الكتاب الذي أعطى الله داود، والزبور كله مواعظ، وقال بعض العلماء: ليس فيه حكم شرعي، وإنما هو كله رقائق ومواعظ تذكر بالله، فكان يتلوه بصوت حسن فتجتمع الطير لصوته وقراءته للزبور، وبعضها قد يموت جوعاً وينسى الأكل وهو مؤتلف منسجم مع ترتيل داود عليه السلام.