وسرت إِلَى أَن وصلت إِلَيْهَا وَهِي تَأْكُل الصخر، ومددت يَدي إِلَيْهَا بِسَهْم فغرق النصل وَلم يَحْتَرِق وَاحْتَرَقَ الريش. انْتهى. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: انْظُر إِلَى عظم لطف الْبَارِي تَعَالَى بعباده إِذْ سخرها بِلَا حرارة، إِذْ لَو كَانَت كنارنا لأحرقت من مدى الْبعد، فناهيك بقربها وعظمها، وَلكنهَا لَيست بِأول مكارمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وامتنان خَالِقهَا عز وَجل إِذْ خمد حرهَا، وَجعل سَيرهَا تهويداً لَا تنفيثاً، حفظا لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولأمته، ورفقاً بعباده ولطفاً بهم: " أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير ". وَقد ظهر بظهورها معجزات بَان بهَا آيَات وأسرار بديعة وعنايات ربانية منيعة، فَفِي انطماس نورها فكرة، وَسَببه عدم حرهَا، وَفِي عدم حرهَا عِبْرَة، وَسَببه خفَّة سَيرهَا، وَفِي استرسال دبيبها قدرَة وَسَببه عدم أكلهَا، وَفِي عدم أكلهَا حُرْمَة، وَسَببه لَا يعضد نبتها. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وأخبرتني بعض من أدركتنا من النِّسَاء إنَّهُنَّ كن يغزلن على ضوئها بِاللَّيْلِ على أسطحة الْبيُوت. قَالَ رَحمَه الله: وَظهر بظهورها معْجزَة من معجزات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي مَا ورد فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تظهر نَار بالحجاز تضيء لَهَا أَعْنَاق الْإِبِل ببصرى ". فَكَانَت هِيَ إِذا لم يظْهر قبلهَا وَلَا بعْدهَا، ثمَّ قَالَ رَحمَه الله: وَظهر لي أَنه فِي معنى أَنَّهَا كَانَت تَأْكُل الْحجر وَلَا تَأْكُل الشّجر، إِن ذَلِك لتَحْرِيم سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شجر الْمَدِينَة فمنعت من أكله؛ لوُجُوب طَاعَته، وَهَذَا من أوضح معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقدم إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فِي جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة نجابة من الْعرَاق، وأخبروا أَن بَغْدَاد أَصَابَهَا غرق عَظِيم حَتَّى دخل المَاء من أسوارها إِلَى الْبَلَد، وغرق كثير من الْبَلَد وَدخل المَاء دَار الْخَلِيفَة، وانهدمت دَار الْوَزير وثلثمائة وَثَمَانُونَ دَارا، وانهدم مخزن الْخَلِيفَة وَهلك من السِّلَاح شَيْء كثير، واشرف النَّاس على الْهَلَاك وتخرقت أَزِقَّة بَغْدَاد، وَدخلت السفن وسط الْبلدَانِ، وَفِي تِلْكَ السّنة احْتَرَقَ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة أول لَيْلَة من رَمَضَان الْمُعظم. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وانخرق السد من تَحْتَهُ فِي سنة تسعين وسِتمِائَة؛ لتكاثر