هو الذي يشكل الملكة ويلونها، فمن بدأ بالفقه تلونت ملكته بالعبارات الفقهية، ومن بدأ بالنحو تشكلت لديه الملكة النحوية، حتى إذا ورد على هذه الملكة تمرس بالبلاغة لم تسطع إحكامها، ولهذا كان شعر الفقهاء والنحويين والمكلمين والنظار غاية في القصور (?) ؛ إن الملكة لا تستطيع أن تفسح المجال لغير صناعة واحدة تبلغ بها درجة الإتقان: حتى الشعر والترسل لا يمكن اجتماعهما لدى امرئ واحد إلا في النادر، غذ الملكة المتقدمة هي المتحكمة، فإذا نازعتها مكانها ملكة أخرى لم تجد موضعاً تستقر فيه، وبقيت الأولى تدفع كل ما عداها؛ وهذا شيء يكاد يكون عاماً لا في الشئون الأدبية واللغوية والعلمية وحسب بل في جميع الصناعات، وإذا اعتبرته في اللغات وجدت أن الأعجمي " الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة العربي، ولا يزال قاصراً فيه ولو تعلمه وعلمه، وكذا البربري والرومي والإفرنجي قل أن تجد أحداً منهم محكماً لملكة اللسان العربي " (?) .

سلامة المكلة بان لا تدخل عليها عوامل تخدشها

ولا يقف ابن خلدون عند هذا الحد بل يطور رأيه بناء على تجربته الذاتية في الشعر، ويذهب إلى ما يشبه التأكيد بان سلامة الملكة وتفردها دون ان تنازعها ملكة أخرى ادعى إلى إتقان الفن الذي توفرت عليه، وان الصراع بين ملكتين قد يصيب الأولى المتمكنة منهما ببعض الوهن؛ لقد نشأ ابن خلدون - بسبب محفوظه الشعري الأصيل - قادراً على قول الشعر ولكنه لحظ انه يحس " باستصعاب " فيه كلما حاول النظم، وحدث لسان الدين ابن الخطيب بهذا الذي يعتريه ثم علل ذلك التعسر بالتزاحم بين محفوظه الأصيل من الفن الشعري وحفظه للمتون والقصائد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015