فمن أراد أن يكون شاعراً كان لابد له من أن يحفظ نماذج من الشعر العربي " حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها " (?) وأقل ما يحتاجه من يريد ان يصبح شاعراً شعر أحد الفحول الإسلاميين واكثر ما يحتاجه " شعر كتاب الأغاني، لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية " (?) ، وكلما كثر المحفوظ تعددت النماذج وأصبح النسج على منوالها ايسر، فإذا تدرب الناظم واكثر من التدرب، استحكمت الملكة لديه، وربما كان من الخير له، لو زالت من ذهنه المحفوظات وبقيت رسومها فإنه عندئذ يكون اكثر اعتماداً على نفسه في اجتلاب التراكيب. ولعل هذه الحال ليست خاصة بعصر ابن خلدون، وإنما يرجع تاريخها إلى أقدم الأزمنة حين كان الشاعر الناشئ يعمل راوية عند شاعر مشهور، ولكن ابن خلدون هنا أبطل " الموهبة " جملة، وذهب إلى ان الملكة اكتساب خالص، ونفذ من ذلك إلى نتائج غريبة؛ فإنه جعل لطبيعة المحفوظ قيمة كبرى في تشكيل الملكة، فالمحفوظ الحر النقي الكثير الأساليب يشكل ملكة مختلفة عن التي يشكلها حفظ الشعر النازل، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام " (?) فمن حفظ شعر أبي تمام أو ابن المعتز أو الرضي ورسائل ابن المقفع وسهل ابن هارون كانت ملكته أجود وأعلى مقاماً ورتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل الإسرائيلي أو ابن النبيه أو ترسل البيساني والعماد الاصبهاني (?) . ونوع المحفوظ يقرر اتجاه صاحبه في الأدب أو العلم: فالملكة الشعرية تنشا بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمية بمخالطة العلوم والادراكات والأبحاث والانظار، والفقهيه بمخالطة الفقه؟ الخ (?) ؛ والسابق إلى الحفظ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015