الحس، ولهذا وجدنا لأول مرة ناقداً يتحدث عما نسميه اليوم " التجربة الشعرية " المستمدة من الواقع، والتي يمكن أن يرفدها الخيال والزاد الثقافي؛ وفي هذا يختلف حازم اختلافاً شديداً عن ناقد كبير آخر هو عبد القاهر الجرحاني، فإن الجرجاني الناقد جعل الشعر مربوطاً بالعقل، من جهة المعاني حتى في حالة التخييل، وبذلك قصر التخييل على الحيل العقلية في رفع درجة الشعر المخيل إلى درجة المعقول؛ ومن ثم كان التلذذ الناشئ عن تذوق الشعر لديه أمراً عقلياً. أما حازم فإنه استطاع لدقته أن يميز بين الحيل التمويهية والتخييل، صحيح إنه يعتقد أن التمويه متصل بالقائل والمتلقي، ولكن الحيل الشعرية إذا اتصلت بالشعر نفسه فهي محاكاة، وبهذا استطاع حازم أن يفصل بين التخييل من حيث هو مظهر عام يساوي المحاكاة، ومن حيث هو عنصر خاص قد يوازي التمويه. كذلك تجاوز حازم في نظريته الشعرية مشكلة " النظم " التي أطال الجرحاني الوقوف عندها؛ فتحدث حازم عن النظم بمعناه العام ولم يقصره على صورة السياق التأليفي إلا حين تخطاه إلى مراحل أخرى؛ فهو قد أقر أن النظم يتناول سياق الألفاظ، ولكنه أوجد إلى جانبه الأسلوب ليتناول سياق المعنى، وفي توفر النظم والأسلوب والمنزع لدى حازم يتم تخطيه لنظرية الجرحاني.
الشعر وحركات النفس (لا العقل)
ومن طبيعة النظريتين - في تباينهما - إلى الشعر ذهب الجرحاني إلى التعلق بالدقة في المعاني ليكفل للتذوق مراناً عقلياً، أما حازم فإن قصره الشعر على حركات النفس جعله يطلب الوضوح ويتأتى له من شيء النواحي. ويبدو ان حازماً عرف الجرحاني ولكنه لم يستطع ان يأخذ منه نظرته إلى معنى المعنى، وربما لم يفهمها أو ربما وجد منهجه يضطره إلى التحول بها عن واقعها، فلذلك ذهب إلى القول بالمعاني الأوائل والمعاني الثانوية، وهو لا يعني مستويين متفاوتين في التعبير، وغنما يعني معاني متساندة يوضح تاليها سابقها. ولكن