هذا أن من قال " إن مقدمات الشعر لا تكون إلا كاذبة " إنما هو امرؤ كاذب. حقاً إن الشعر لا يقصر على الكذب، وبهذا قال من ذهب إلى " أن أعذب الشعر أكذبه " فإنهم لم يقولوا إن الصدق فيه معدوم ولكنهم فضلوا جانب الكذب فيه على جانب الصدق، فجاء حازم ينصر قضية الصدق مترسماً ما قرأه لدى ابن سينا (?) حيث قال: " وليس يجب في جميع المخيلات أن تكون كاذبة " (?) وحيث قال: " فإن كونه (أي الكلام المخيل) مصدقاً غير كونه مخيلاً أو غير مخيل " (?) - وخلاصة القول هنا: إن الشعر إنما ينظر إليه من ناحية تأثيره وقدرته على إحداث الانفعال النفساني. فقد يكون صادقاً والصدق فيه قادر على إحداث الانفعال. وحينئذ يكون الكاذب القادر على إحداث الانفعال خيراً منه، ويستشهد حازم بقول الفارابي " الغرض المقصود بالأقاويل المخيلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أم ما من طلب له أو هرب عنه " (?) ، وكأنه لم يطلع على قول الفارابي: إن الأقاويل الشعرية كلها كاذب، ولهذا ساوى بين موقفه وموقف أبن سينا.

وقد اتهم حازم المتكلمين بإشاعة نسبة الكذب إلى الشعر (دون أي شيء من الصدق) زاعماً انهم احتاجوا إلى الكلام في إعجاز القرآن، فدرسوا مقدمات في الفصاحة والبلاغة ضللتهم، وسكت حازم عن سائر التهمة، وأعتقد انه أراد أن يقول إن نسبة الكذب إلى الشعر إنما كانت لجعله في منزلة بعيدة عن القرآن القائم كله على الصدق؛ لكنه بدلاً من أن يقول ذلك اتهمهم بضعف بضاعتهم في النقد لأن المقدمات اليسيرة في الفصاحة والبلاغة لا تكفي؛ لابد في صناعة البلاغة من إنفاق العمر، " فهي البحر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015