من الذكاء الخصب المقترن بإحساس فني دقيق بمواطن الجمال في فن القول، ولم يهتم كثيراً بالمبنى المنطقي الذي وضعه قدامة. ومن هذا الموقف استطاع الجرجاني أن يصحح كثيراً من الآراء النقدية التي سبقت عصره، بل لعله لم يقصد عامداً إلى إقامة نظرة نقدية جديدة وإنما كان موقفه من محاكمة الآراء السابقة هو الشيء الجديد في منهجه النقدي، وهو بذلك يختلف عن القاضي الجرجاني الذي جعل النظرات السابقة متكأً له، ويشابه المرزوقي الذي لجا في نقده إلى إعادة تفسير النظرات السابقة، مع فرق أصيل بين الرجلين، وهو ان المواقف النقدية لدى عبد القاهر إنما جاءت صدى لنظراته البلاغية، لا غاية في نفسها.

علاقة الشعر بالصدق والكذب

وعلى أساس ذلك المنهج العقلاني الجمالي تناول الجرجاني مشكلة من مشكلات النقد القديمة، استغرقت كثيراً من جهد النقاد من قبله ومن بعده، أعني بذلك علاقة الشعر بالصدق والكذب، فنفى ان يكون كل من الصدق والكذب عند الحديث عن الشعر متعلقين بالصدق أو الكذب في الخبر أو واردين بالمعنى الأخلاقي، فمن قال كما قال البحتري: " في الشعر يغني عن صدقه كذبه " أو قال " خير الشعر أكذبه " فإنه لا يعني منح الممدوح صفات ليست فيه، أو وصف الجواد بالبخل والطائش بالحلم والسداد؛ ومن قال خير الشعر أصدقه فإنما يعني انه يميل إلى ترك الإغراق والمبالغة فيه.

الاحتكام إلى العقل أيضاً في المشكلة

والقول الفصل عند الجرجاني في هذه المشكلة أن المعاني - وحقه أن يقول " الحقائق " (وهنا نراه زحزح كلمة " معنى " مرة جديدة عن مدلولها العام في نظرته) - تنقسم قسمين فهناك معان يشهد العقل بصحتها كقول المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015