يحوج القارئ إلى طلب معناه بالفكرة ويحرك الهمة والخاطر لطلبه لا يقل إمتاعاً عن التمثيل الذي ينتقل بالقارئ من منطقة العقل إلى منطقة الحس: " ومن المركوز في الطبع ان الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى وبالمزية أولى فكان موقعه من النفس أجل والطف " (?) هل هذه دعوة إلى التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضاً؟ نعم إنها كذلك من وجه واحد، أعني إنها تعمية فنية وتعقيد فني، وليست تعقيداً ناشئاً عن اختلاف في النظم، فهي تكلف القارئ مشقة، غلا أنها مشقة الغائص الذي يبحث عن اللؤلؤة في جوف الصدفة، أما التعقيد المؤرق الذي لا يخرج الإنسان منه بجدوى فذلك هو الشيء المذموم (?) ، ويرى عبد القاهر أن البحتري هو فارس حلبة التعمية الجميلة لأنه يكد في سبيلها ويضع المعاني الدقيقة في صور مقربة: " وإنك لا تكاد تجد شاعراً يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب ورد البعيد الغريب إلى المألوف القريب ما يعطي البحتري ويبلغ في هذا الباب مبلغه فإنه ليروض لك المهر الارن رياضة الماهر حتى يعنق تحتك أعناق القارح المذلل، وينزع من شماس الصعب الجامح حتى يليين لك لين المنقاد الطيع " (?) ولذة النفس كبيرة إذا انقادت لها الفكرة الدقيقة، فالدقة في الشعر ليست بأي حال تعقيداً سيئاً: " وهل شيء أحلى من الفكرة إذا استمرت وصادفت نهجاً مستقيماً ومذهباً قويماً وطريقة تنقاد في الفكرة لها الغاية فيما ترتاد؟؟ قال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكرة والنظر من الفضيلة: " وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة ولذة السبع بلطع الدم واكل اللحم من سرور الظفر بالأعداء ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه، وبعد فإذا مدت الحلبات لجري الجياد ونصبت الأهداف لتعرف فضل الرماة في الإنفاذ والسداد فرهان العقول التي تستبق ونضالها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015