حملته على المنحازين إلى اللفظ
كانت الرواقد النقدية التي التقت في ذهن الجرجاني متعددة ولعلها كانت تبدو له متضاربة، كما تعددت وتضاربت الآراء حول فكرة الإعجاز نفسها، فقد أزعجه أولاً أن يرى ذلك التقدير للألفاظ وتقديمها على المعاني عند من سبقه من النقاد، حتى إنهم جعلوا للفظة المفردة مميزات وصفات لم يستطع أن يتقبلها ذهنه المتمرس بتفاوت الدلالات، وقيمة التعبير عن ذلك التفاوت، وكان يحس بوعي نقدي فذ أن ثنائية اللفظ والمعنى التي تبلورت عند ابن قتيبة قد أصبحت خطراً على النقد والبلاغة معاً: أما على المستوى النقدي فإن الانحياز إلى اللفظ قتل " الفكر " الذي يعتقد الجرجاني انه وراء عملية أدق من الوقوف عند ميزة لفظة دون أخرى؛ وأما على المستوى البلاغي فإن الجرجاني لم يستطع أن يتصور الفصاحة في اللفظة وإنما هي في تلك العملية الفكرية التي تصنع تركيباً من عدة ألفاظ (?) ؛ وقد يجد الجرجاني عذراً للقدماء الذين أقاموا تلك الثنائية ففخموا شأن اللفظ وعظموه وتبعهم في ذلك من بعدهم حتى قالوا: المعاني لا تتزايد وغنما تتزايد الالفاظ، وعذرهم في ذلك أن المعاني تتبين بالألفاظ ولا سبيل لمن يرتبها إلى أن يدلنا على ما صنع في ترتيبها إلا بترتيب الألفاظ، لهذا تجوز القدماء فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ نفسها، ثم تحدثوا عن الألفاظ وحذفوا كلمة " ترتيب " ثم اسبغوا على الألفاظ صفات فارقة فقالوا: لفظ متمكن ولفظ قلق؟ الخ وإنما مقصودهم المعنى (?) ؛ ورغم هذا العذر الذي يجده للأقدمين فإنه يرى ان النقاد قد تورطوا في الجهل الفاحش حين لجأوا إلى هذه القسمة أو حين احتموا بذلك التصور، وأصبح اقتلاعه من نفوسهم أمراً عسيراً، وعاب ابن قتيبة - دون أن يسميه - لأنه قسم الشعر في أنواع: منه ما حسن لفظه ومعناه ومنه ما حسن لفظه دون معناه ومنه ما حسن معناه دون لفظه،