الجهد لأنه يعمل قصيدته بيتاً بيتاً فلا يتسع في التوضيح وإنما يكتفي بالإشارة واللمح في بيان المعنى (فكل ما يحمد في الترسل ويختار يذم في الشعر ويرفض ". وهذا أول رد على نظرية ابن طباطبا الذي أقام القصيدة على نموذج الرسالة. وبسبب اختلاف المبنيين اختلفت الإصابة فيهما لتباين طرفيهما. وأصبح من الصعب على المرء أن يكون شاعراً كاتباً، حتى الرجز والقصيد ربما لم يتمكن الواحد أن يحسنهما بالتساوي، فكيف بالنثر والشعر وبينهما من التباعد أكثر مما بين الرجز والقصيد (?) .

ثم إن ما يطالب به الكاتب أشد صعوبة مما يطالب به الشاعر: فالكاتب مطالب بمراعاة حال من يكتب عنه ومنزلته الاجتماعية وأحوال الزمان ومواضع الإيجاز والإطناب وأحكام الشريعة؛ ومجال ترسله يتناول العهود والإصلاح والتحريض على الجهاد والاحتجاج والمجادلة والنهي عن الفرقة والتهنئة والتعزية؟ ولذلك عز من يستطيع ضبط هذه الأمور، فكانوا قلة ونالت تلك أرفع المناصب لضخامة ما يضطلعون به، أما الشاعر فغير مكلف بشيء من ذلك وغنما هو يصف الديار ويشبب ويمدح ويهجو؟ أي أكثر موضوعاته تنبعث من ذاته ومشاعره، دون أن يطلب غليه ذلك، ولهذا تفاوت حال الكاتب والشاعر. ولا ريب في أن وراء هذا التعمق الذي ينتحيه المرزوقي أشياء تحس انه كان يريد أن يقولها فلم يقلها، ونحن اليوم ربما كنا أقدر منه على تصورها: فالتفرقة بين المبنى النثري والمبنى الشعري وبين موضوعات النثر وموضوعات الشعر، وطريقة معالجة كل منهما هي التفرقة القائمة بين منطقتي التفكير والشعور، ودرجة كل منهما؛ غير أن المرزوقي يقصر حديثه على كاتب الديوان - دون سواه - ويحاول ان يجد تفسيراً فكرياً لما هو قائم حينئذ على نحو عملي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015