اكتفاء الفارابي بالنظر دون التطبيق
ومن الغريب أن الفارابي (وهو يعيش في عصر النهضة الشعرية) لم يلابس الشعر العربي كثيراً، ولا ألف فيه كما ألف في صنعة الكتابة؛ إلا أن تكون رسالته في الشعر والقوافي، ذات صلة بالشعر العربي؛ وكم كنا أسعد حظاً لو أن شخصاً عميقاً حاد الذكاء مثل الفارابي لم يمنعه إجلاله لأرسطو من إتمام القول في الصناعة الشعرية. إذ كانت المقارنة بين أدبين - أو على الأقل بين التقاليد العامة والمقاييس المعتمدة في كل منهما - كفيلة بأن توفر له من المجال ما لم يتوفر لأرسططاليس نفسه، إذ كان الحكيم يستمد أحكامه من تصور مقصور على الأدب اليوناني دون غيره. وقد رأينا كيف كانت هذه المقارنة جليلة الفائدة لدى الفارابي في الأمور العامة؛ فهي التي جعلته يتنبه إلى ما غفل عنه قدامه من أمر القافية، وأنها شيء يجد اهتماماً خاصاً من العرب دون كثر الأمم الأخرى، وهي التي حمته من أن يتورط تورط الجاحظ الذي كان يظن أن " الوزن " هو السر المعجز في الشعر العربي؛ وهي التي جعلته يدرك كيف خلط الخطباء والشعراء في الأدب العربي بين الشعر والخطابة أحياناً، ويرى الفرق بين الشعر العربي على التلحين، وعدم دخول اللحن في الإيقاع الشعري - نظرات أصيلة مفيدة إذا أضفتها إلى ما اقتبسه من المعلم الأول، كانت حقيقة بتوسيع آفاق النقد، لو كانت لدى الفارابي شجاعة قدامه في وضع منهج نقدي متكامل.