والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري لأن المتقدمين وردوا الأواجن والطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد لأن المتقدمين جروا على منابت الشيح والحنوة والعرارة " (?) فليس ثمة أوضح منه في الدلالة على تحريم التقليد الشكلي المضحك، وإحلال مواد الحضارة محل مواد البداوة في الشعر. ومن ذا الذي ينكر أن استعمال الحصان أو الحمار بدل الجمل وذكر الأجاص والتفاح بدل الشيح والعرار لا يكون تقليداً مستهجناً مضحكاً؟ للشاعر أن يجدد بما يناسب عصره - دون حكاية قياسية تدل على ضعف الخيال أو أن يعيد كر الرحلة ووصف الطلل - وإن لم يوجدا في عصره - لأنهما قد أصبحا لديه رمزاً لا حقيقة، والرمز ذو محل مقبول، فأما المحاكاة القاصرة فإنها سيئة الوقع تستثير الاهتزاء، وكان أبن قتيبة يومئ من طرف خفي إلى أن أبا نواس لم يصنع شيئاً فنياً في دعوته، وإن كان ألبق من غيره من المأخوذين بمواد الحضارة، لأن الوقوف على الحانات بدل الوقوف على الأطلال تغيير في الموضوع لا في الطريقة الفنية.
اهتمام أبن قتيبة بالشاعر يفوق اهتمامه بالشعر
مما تقدم نرى أن اهتمام أبن قتيبة متجه في أكثره نحو الشاعر (دون إغفال للشعر والجمهور) فهو إما متكلف أو مطبوع، ولحالته النفسية أثر بين في الشعر، وللغرائز عند الشعراء أثر في تبيانهم في الفنون الشعرية المختلفة. ومن التفت إلى الشاعر واهتم به هذا الاهتمام بين الأركان الثلاثة (الشاعر - الشعر - الجمهور) كان لابد له من أن يعرج على ما يحتاجه الشاعر من ثقافة، ولهذا نجد أبن قتيبة يخص الثقافة السماعية بالاهتمام، فالشعر بعد علم الدين أحوج " العلوم " إلى ذلك