(ج) مراعاة الحالة النفسية في السامعين (أي في الجمهور) ، ومن هذه الناحية علل أبن قتيبة بناء القصيدة العربية: من استهلالها بالبكاء على الأطلال ثم الانتقال إلى وصف الرحلة والنسيب: " ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه وليستدعي إصغاء الأسماع لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسبب وضارباً فيه بسهم حلال أو حرام؛ فإذا استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق.. " (?) فأبن قتيبة يؤمن أن بناء القصيدة على هذه المقدمات إنما كانت تستدعيه الرغبة في لفت الانتباه، وإشراك السامعين في عاطفة الشاعر، وهي عاطفة تسهل المشاركة فيها لأنها قريبة إلى القلوب جميعاً؛ كما يرى أن مبنى القصيدة لابد أن يظل متناسب الأجزاء معتدل الأقسام فلا يطيل في قسم منها فيمل السامعين، ولا يقطع وبالنفوس ظمأ إلى مزيد؛ ومع أبن قتيبة يقر بأن أجزاء القصيدة قد تتكون من مقدمة طللية ومن نسيب ثم من وصف الرحلة للممدوح ثم المدح، فإنه في وقفته عند مبدأ التناسب يرينا أنه يحس إحساساً دقيقاً بالطول المعين الذي لابد للقصيدة أن تحافظ عليه.
هل أبن قتيبة اتباعي يعارض الخروج عن طريقة القدماء
وقد فهم بعض الدارسين أن أبن قتيبة يصر على أن يظل هذا الشكل نظاماً صارماً لكل شاعر جاهلياً كان أو إسلامياً أو محدثاً، وأنه حرم على المتأخرين التحلل من ربقة هذا النظام، وهذا الوهم منشؤه قول أبن قتيبة " فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام " - وما أرى أبن قتيبة هنا يؤكد شيئاً سوى التناسب، أما قوله بعد ذلك " وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيد البنيان لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر