وفيرًا من رهافة الإحساس ورقة الشعور، وبرهنوا عن تقديم فني مرموق، وذوق أدبي مصقول. وعلى العموم, إننا نجد في الأدب الجاهلي شعرًا كان أو نثرًا، من المثل العليا والآراء في الحياة، ما يجعله أدبا إنسانيا خصبا وغزيرا1.
يقول الشاعر سليمان العيسى في حديث له في مجلة الموقف العربي2:
"إننا لا ندري من أية غاية مجهولة موغلة في القدم انحدرت إلينا القصيدة العربية بشكلها الذي نعرفه جميعًا. كل ما تعلمناه في المدارس وسمعناه من أساتذتنا، أن أقدم ما وصلنا من تراثنا الشعري هو الشعر الجاهلي، وعلى رأس الشعر الجاهلي هذه القصائد الساحرة: المعلقات.
والشعر الجاهلي يرجع إلى الوراء، فإذا هو لا يتعدى مائة وخمسين سنة قبل الإسلام. والمعلقات تحوم حول الإسلام، ومن أصحابها من أدرك الدعوة الجديدة وآمن بها، ومنهم من مات قبل الدعوة بقليل.
وتلقي بنظرك إلى هذه المعلقات، إلى هذه الأشكال التقليدية الأولى، فإذا أنت أمام شعر قد بلغ الذروة؛ ذروة في اللغة، وذروة في الخيال والفكر، وذروة في الموسيقى، وذروة في نضج التجربة وأصالة التعبير، أفيعقل أن يكون مثل هذا النضج الفني بداية؟ أفيمكن أن يكون القطرات الأولى التي تألف منها نهر الشعر العربي؟.
إني لأرى، ويشاركني في هذا الرأي كثيرون، أن منابع الشعر ما تزال أقوى وأغنى من مصبه حتى الآن، وأن شعرنا الجاهلي ما يزال النموذج الرائع الجدير بأن نعود إليه، وأن نغترف منه، وأن نتتلمذ عليه إذا أردنا أن نكون كتابًا أو شعراء مجيدين".
ثم ينتهي إلى القول: "إن تاريخ القصيدة العربية قديم قديم، ما أحسب إلا أن البحث الجدي سيبلغ جذوره، ويكشفها في يوم من الأيام". والواقع كما يقول سليمان العيسى، إن تاريخ القصيدة العربية قديم، وهو أقدم بكثير من التاريخ الذي حدده لقدمه "150 سنة قبل الهجرة". فلكي تبلغ اللغة العربية والشعر العربي الكمال والروعة،