بعضهم من بعض1، فأتاح هذا الحلف للعرب أن يتعاملوا مع اليهود، وأن يعملوا معهم جنبًا لجنب في الزراعة والتجارة؛ فأثروا وازداد عددهم، وراحوا ينظمون أنفسهم، فلم يلبث اليهود أن نقضوا العهد الذي يربطهم بهم، إذ رأوا فيهم خطرًا يهدد مصالحهم ومستقبلهم، وخافوا أن تزداد قوة العرب، ويشتد ساعدهم، فيهددوا نفوذ اليهود، فأخذوا للأمر عدته، وعادوا إلى سلوك سياسة الاستبداد وناوءوا الأوس والخزرج، وحاولوا تقليم أظافرهم.
عندئذٍ ظهرت الفتن والعداوات بين الطرفين، ولما أدرك العرب أن لا قِبَلَ لهم بمجابهة اليهود، إذ كانوا أكثر عددًا وأقوى استعدادًا، أقاموا في منازلهم، وخافوا أن يجليهم اليهود عن المدينة، ثم اتصلوا بأبناء عمهم الغساسنة في الشام -وكان زعيم العرب في يثرب آنذاك مالك بن العجلان من الخزرج- فأتاهم أمير من غسان يسمى "أبو جبيلة" بقوة كبيرة، فأعمل الحيلة في استدراج زعماء اليهود، وفتك بهم كما تقول الرواية العربية، فضعف بذلك نفوذ اليهود، وتقلص عن الحياة السياسية والاجتماعية في يثرب، ليقوى نفوذ الأوس والخزرج بالمقابل، وزاد عدد الآطام التي ابتنوها، حتى أصبح لبطن واحد فقط منهم 19 أطمًا، بينما كان لليهود ما يقارب 59 أطمًا.
غير أن اليهود بدءوا من ذلك الحين يحاربون القبيلتين حربًا خفية، بالدس والوقيعة بينهما، وقد استغلوا ما بينهما من تنافس قد انقلب بعدئذ إلى عداوة، ذلك أن أسبابا عديدة قد حملت القبيلتين على التنازع، منها ما هو سياسي، يتلخص بالتنافس على الرئاسة واحتلال مركز الصدارة في يثرب، لا سيما وأنه كان لزعيم الخزرج مالك بن العجلان شرف الانتصار على اليهود، فاعتزت بهذا الانتصار، ونافستها الأوس على هذا الفخر. ومنها ما هو اقتصادي يتلخص في كون الأوس -الأكثر عددًا من الخزرج- قد استطاعوا الاستيلاء على بقاع من الأرض أكثر خصبا، وأغنى من الجهات التي نزلها الخزرج، فنافستها الخزرج على ذلك، فعمل اليهود على تشجيع عوامل الفرقة، وإذكاء روح التحاسد بين القبيلتين؛ لكي يضعفوهما2. وما زالوا كذلك حتى حملوا القبيلتين على الاصطدام، فاحتربتا حروبًا لم تنتهِ إلا قبيل قدم الرسول مهاجرًا إلى المدينة.