عليها- إلى بناء الآطام والقلاع؛ ليحتموا فيها منهم. ثم بدءوا في استثمار الأراضي الخصبة في الزراعة.
كان لليهود أثر اقتصادي مهم في يثرب، بإقامتهم الضياع في المنطقة المحيطة بيثرب وكانت ملائمة للزراعة، لخصب أراضيها، وتوفر المياه فيها، وقد اتسعت مراكز سكناهم على مناطق واسعة، وصلت حتى تبوك المجاورة لحدود بلاد الشام. وليس معنى ذلك أن العرب لم يعرفوا الزراعة قبلهم، فقد ذكر ياقوت الحموي أن أول من زرع بالمدينة، واتخذ بها النخل، وعمر الدور والآطام، واتخذ بها الضياع العماليق.
وقد مارس اليهود مختلف الصناعات، كالصياغة وصناعة الأسلحة، والاهتمام بالتجارة، وسيطروا بذلك على زمام الأمور الاقتصادية في المدينة، لا سيما وأنهم قد امتهنوا الصيرفة والإقراض بالفائدة الفاحشة "الربا" وأثروا إثراء عظيما، وكثر عددهم حتى غلبوا على يثرب جنسيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.
وما زال هذا شأنهم، حتى قدمت إلى يثرب قبائل عربية هجرت الجنوب اليمني لأسباب اقتصادية سيئة، من تدني مستوى النشاط الزراعي والتجاري، ولأسباب سياسية من تنازع أقيال اليمن بعضهم مع بعض، ومن إلحاح الأحباش على غزو اليمن، وكانت هجرتهم إلى الحجاز بعامة، وإلى المدينة بخاصة متقطعة. وأشهر هذه القبائل الأوس والخزرج من الأزد، وينسبها النسابون إلى عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء، فهم وغساسنة الشام أبناء عم، وربما قدموا معا من اليمن، وتفرقت كل فئة منهم في جهة. ومن الصعب تحديد الفترة التي جرت فيها هذه الهجرة، فقد تكون -بحسب استنتاجات المؤرخين المحدثين- في أواخر القن الرابع الميلادي.
وقد قامت بين العرب القادمين وبين اليهود علاقات طيبة في أول الأمر، إذ لم يكن عدد القادمين مما يخيف اليهود، ووجد العرب أن الأموال والآطام والعدد والقوة بيد اليهود، فقنعوا مضطرين بسماح اليهود لهم بمجاورتهم. كما فكر اليهود بالاستفادة من خبرة العرب بالزراعة -وأصلهم من اليمن المعروف بزراعته النشيطة- فاتخذوا منهم عمالًا ومساعدين لهم في أعمالهم الزراعية1. لا بل عقد الطرفان فيما بينهم حلف جوار يأمن به