وافقت عليها بالإجماع، والبطون كانت تشذ عن تنفيذها، إذا لم تكن موافقة لمزاجها1.
فالوصف الذي وصف المستشرق الأب "لامنس" به مكة بكونها جمهورية تجارية لا يخلو إذن من مبالغة. ولا يجب أن نعتقد أنها كانت جمهورية بكل ما للكلمة من معنى؛ ذلك أن النظام السياسي في مكة لا يعدو كونه اتحاد عشائر وبطون، ارتبط بعضها ببعض في سبيل التعاون لخدمة الكعبة وقصادها، ولتنظيم تجارة القوافل، يتولى تسيير أمورها نفر من رؤساء العشائر والأغنياء وذوي الجاه والنفوذ، يفصلون في الأمور حسبما يتراءى لهم أنه الصواب، وربما خفف من غلواء حرية البطون في مخالفة قرارات "الملأ" -الذي لم يكن في الواقع سوى شكل من أشكال مجالس القبائل المتحالفة في البادية- ارتباط المجتمع في مصلحة مشتركة، واعتقادهم بأن القائمين على "الملأ" إنما يتوخون المصلحة العامة، ويحرزون الثقة لنبل مقاصدهم2.
حينما وضعت قريش مقاليد حكمها في يد قصي، اجتمعت إليه جميع أمورها، فله رئاسة دار الندوة، والسدانة حيث تحفظ لديه مفاتيح الكعبة، وهو الذي يفتحها للناس، ويأذن لهم بدخولها، ولا تقام فيها شعائر دينية إلا بإذنه، كما كانت له السقاية والرفادة. والأولى تقضي بتدبير ماء الشرب وحمله من آبار مكة المجاورة للكعبة، ووضعه في أحواض لسقاية الحجيج، وفي بعض الأحيان كان يحلى بالزبيب. وقد بقي ذلك إلى أن أعيد حفر بئر زمزم في عهد عبد المطلب بن هاشم بعد أن كان قد ردم. والثانية "الرفادة" تقضي بإطعام الحجيج، إذ كان قصي قد حمل قريشا على أن تخرج في كل موسم شيئًا من أموالها يخصص لتهيئة طعام يصنع للحجاج، ويقدم إليهم في منى وعرفات باعتبار أنهم ضيوف الله. ويفسر بعضهم هذا العمل بكون القصد منه ترغيب الناس بالإقبال على الحج، أو أن قريشا كانت تقصد به المؤاكلة مع القبائل العربية، تلك المؤاكلة التي تعد في عرفها بمثابة عقد جوار، فتكون قريش قد تعاقدت مع هذه القبائل برابطة الجوار والأمن، فتنال احترامها، وتحقق لقوافلها السير في أراضيها آمنة. ويظهر أن هذا التقليد ليس جديدًا في مكة إذ يروى أن عمرو بن لحي الخزاعي كان يطعم الحجيج ويقيم