أقره قصي من نوع الحكم، وإن يكن حضري الطابع في مظهره، فإنما هو في جوهره تنظيم قبلي، تكيف تكيفًا خاصًّا بحسب ظروف الاستقرار، وبحسب علاقات قريش التجارية الواسعة، واتصالها بالعالم المتحضر. فلم تكن المدينة عند العرب هي الوحدة السياسية، ينصهر أفرادها في بوتقة المواطنة للمدينة فقط، دون أي اعتبار للانتماء القبلي، بل كانت القبيلة هي المعبر عن هذه الوحدة مثل قريش وبطونها المختلفة في مكة، وثقيف وبطونها في الطائف، والأوس والخزرج والقبائل اليهودية المختلفة في يثرب. وقد جرى عرف العرب على الانتساب للقبائل وإلى البطون ضمن القبائل لا إلى المدن، وبقيت الرابطة القبلية هي التي تنظم علاقات المكيين بعضهم ببعض حتى ظهور الإسلام.
وقد أصبحت الدار التي بناها قصي لنفسه، وجعل بابها يؤدي إلى الكعبة، المقر الذي يجتمع فيه إلى سادة قريش وزعماء بطونها ووجوههم -فيما سمي باسم "الملأ" وهو يشبه مجلس الشيوخ في المدن الرومانية القديمة- وقد سمي هذا المقر باسم "دار الندوة" فيها يجتمع قصي بوجهاء بطون قريش، ويتشاور معهم في الأمور العامة. وإنما سميت كذلك لأن القوم إذا حز بهم أمر ندُّوا إليها، أي: اجتمعوا فيها للتشاور، فسميت دار الندوة، أي: دار الجماعة1. ولم يكن هنالك من أمر يهم قريشًا إلا ويحل فيها، ففيها كان يعقد لواء الحرب، إذا أقدمت قريش على حرب، وفيها يتم تجهيز القوافل وتستعد للرحيل، وفي فنائها تحط عند عودتها محملة بالبضائع، وحتى المسائل المدنية كانت تُحَلُّ فيها. يقول اليعقوبي: "وكان لا ينكح رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر، ولا يعقدون لواء بالحرب، ولا يعذرون غلاما "يختنونه" إلا في دار الندوة"2. وفيها كانت تدرَّع الفتيات حين يبلغن سن الرشد، إذ يشق قصي قميصهن ويلبسهن لباس البالغات. ولم يكن لأحد لم يبلغ سن الأربعين -عدا بني قصي وحلفائهم من رؤساء العشائر، أو من كان مفوهًا ذا رأي ومشورة وحكمة- أن يشترك في مجلس دار الندوة "الملأ".
أما قرارات مجلس دار الندوة، تلك التي لم تكن تتبع قانونا مدونا، بل كان للتقاليد والأعراف القبلية الشأن العظيم في إصدارها، فلم تكن ملزمة لجميع البطون إلا إذا