الحرورية فبدأنا بهم، فإذا فرغنا منهم وجهنا من وجهنا ذلك إلى المحلين"1، وقد رفض علي في بادئ الأمر هذا الاقتراح، واعتقد أن قتال أهل الشام ضرورة ملحة.
وهكذا، فإن الرغبة في قتال الخوراج، راجت في صفوف المقاتلين حتى بلغت الخليفة نفسه، على الرغم من أن هؤلاء لم يقوموا بأي عمل معاد للسلطة سوى إصرارهم على الانفصال، والتجمع مع أصحابهم في مكان واحد.
ويبدو أن العراقيين خشوا مواجهة أهل الشام في معركة سافرة مرة ثانية، فأرادوا تأجيل اللقباء الذي كان علي يعد له، إذ إن آثار معركة صفين، وأهوالها ومآسيها كانت لا تزال ماثلة في أذهانهم، لذلك لا يريدون تكرارها، ويسعون إلى تجنبها بترويج فكرة البدء بمحاربة الخوارج، ووصفوا ذلك بالضرورة الملحة لإقناع علي بقبولها2، واضطر علي إلى النزول عند رغبتهم مواسيًا نفسه بأن قتال الخرواج ضرورة شرعية؛ لأنهم نكثوا البيعة، وخرجوا على الطاعة.
أحداث المعركة:
لم يتخذ علي قراره النهائي بقتال الخوارج، إلا بعد أن استنفد معهم كافة وسائل الاستقطاب، وأتاح لهم الفرصة للتراجع، وتغيير ما بأنفسهم والتخلي عن موقفهم التمردي، باستثناء أولئك الذين ارتكبوا أعمالًا جرمية3، وفعلًا انسحبت عدة مجموعات منهم قبل بداية المعركة، فانسحب ألف ومائتان من أصل أربعة آلاف، وقد عبر فروة بن نوفل الأشجعي عن رأي المنسحبين بوضوح حين قاله لأصحابه: "والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليًا، لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفيذ بصيرتي في قتاله أو اتباعه، وانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة، وخرجت طائفة أخرى متفرقين، فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة، وكانوا أربعة آلاف، فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب منهم ألفين وثمانمائة"4.
تكتسب عمليات الانسحاب هذه أهمية كبيرة؛ لأنها تبين أن المجموعات المنسحبة التي تبدو، من خلال روايات المصادر، متماسكة وملتفة حول المبادئ التي نادى بها زعماؤها، لم تكن لأفرادها الدرجة نفسها من الاقتناع، والالتزام5، ولعل في تعبير فروة بن نوفل خير دليل على ذلك.