الشام الذي كان يعمل بنزعة لا مركزية، ويجتهد ألا تفوته الفرصة لتحقيق منطق الاستمرارية للأسرة الأموية، وتمكن بحسن سياسته، وإغداق المال على أهل الشام، من استقطابهم، فالتفوا من حوله، وشكلوا قوة يناصرونه، ويأتمرون بأمره، والواضح أنه كان لولاية الشام مركز متفرد؛ لأن معظم العرب الذين كانوا يقطنونها لم يذهبوا إليها مهاجرين مثل باقي الأمصار، كما أنهم تأثروا بالحكم اليوناني، والروماني قبل الإسلام بوصفهم تابعين لدولة الغساسنة، ولذلك اعتادوا على النظام وطاعة الحاكم، والمعروف أن معاوية كان واليًا على هذه المنطقة منذ عهد عمر بن الخطاب، واستمر في عهد عثمان بن عفان، فارتبط مع أهل الشام برباط قوي من الولاء المتبادل، ونتيجة لذلك، لم يتمكن سهل بن حنيف من دخول الشام، واستلام منصبه كوال عينه علي، وهو مؤشر إلى فتح الصراع مع هذا الأخير تحت غطاء الدعوة إلى الاقتصاص من قتلة عثمان.
كان علي يدرك خطورة ولاء أهل الشام لمعاوية، حيث القبائل الموحدة، والجيش القوي الذي تم إعداده، والإدارة التي قطعت شوطًا في التنظيم، أي أن الشام اجتمعت فيها كل عناصر الدولة الفتية، فيما الخلافة قد انهارت دولتها، وكان عليها أن تعيد بناءها من جديد1، فدعا طلحة والزبير، وقال لهما: "إن الذي كنت أحذركم قد وقع يا قوم، وإن الأمر الذي وقع لا يدرك إلا بإمامته، وإنها فتنة كالنار، كلما شعرت ازدادت واستنارت"2.
تجاه هذا التطور السلبي لوالي الشام، أرسل علي كتابًا إلى معاوية دعاه فيه إلى الدخول في طاعته، وعدم تفريق كلمة المسلمين، لكن الأخير لم يجبه حتى انقضت ثلاثة أشهر، فأرسل إليه رسالة بيضاء في شهر "صفر 36هـ/ آب 656م" مع رجل من أنصاره ينتمي إلى عبس، مختومة ومكتوب عليها "من معاوية إلى علي"، وأوصاه بإبراز الرسالة عند دخوله إلى المدينة حتى يراه الناس. فلما وصل إليها، في غرة ربيع الأول، رفع الرسالة فرآها أهل المدينة، فعلموا أنه رفض البيعة، وتوقعوا حدوث أمر ما، ولما فتح علي الرسالة لم يجد فيها سوى البسملة، فطلب من الرجل أن يتكلم، فأخبره بأن خمسين ألف رجل يبكون تحت قميص عثمان، وهو معلق فوق منبر جامع دمشق، ويطالبون بدمه، وقد عاهدوا الله ألا يغمدوا سيوفهم، ولا يغمضوا جفونهم حتى يقتلوا قتلة عثمان، وحمل عليًا مسئولية هذا الدم، فقال علي عندئذ: "اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان"، ثم صرف مبعوث معاوية3.