ملكه يبقى على ذلك الحال، وقد علا ذكره ونمى قدره، فخسف في الكمال بدره:
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالًا إذا قيل تم
ونحن في طلب الازدياد، على ممر الآباد، فلا تكن كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأبد ما في نفسك: إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، أجب دعوة ملك البسيطة تأمن شره، وتنل بره، واسع إليه بأموالك ورجالك، ولا تعوق رسلنا، والسلام.
ثم أرسل إليه كتابًا ثالثًا يقول فيه: أما بعد، فنحن جنود الله، بنا ينتقم ممن عتا وتجبر، وطغى وتكبر، وبأمر الله ما ائتمر، إن عوتب تنمر، وإن روجع استمر، ونحن قد أهلكنا البلاد، وأبدنا العباد، وقتلنا النسوان والأولاد فيا أيها الباقون، أنتم بمن مضى لاحقون، ويا أيها الغافلون أنتم إليها تساقون، ونحن جيوش الهلكة، لا جيوش الملكة مقصودنا الانتقام، وملكنا لا يرام، ونزيلنا لا يضام، وعدلنا في مكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفر.
أين المفر ولا مفر لهارب ... ولنا البسيطان الثرى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود، وأصبحت ... في قبضتي الأمراء والخلفاء
ونحن إليكم صائرون، ولكم الهرب وعلينا الطلب:
ستعلم ليلى أي دين تداينت؟ ... وأي غريم بالتقاضي غريمها؟
دمرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد وأذقناهم العذاب، وجعلنا عظيمهم صغيرًا، وأميرهم أسيرًا، تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون، وعن قليل سوف تعلمون على ما تقدمون، وقد أعذر من أنذر.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين والدنيا بلا خليفة.
وفيها نزل التتار على آمد، وكان صاحب مصر المنصور على بن المعز صبيًّا، وأتابكه الأمير سيف الدين قطز المعزي مملوك أبيه، وقدم الصاحب كمال الدين بن العديم إليهم رسولًا يطلب النجدة على التتار، فجمع قطز الأمراء، والأعيان، فحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام -وكان المشار إليه بالكلام- فقال الشيخ عز الدين: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ الأموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا.
ثم بعد أيام يسيرة قبض قطز على ابن أستاذه المنصور، وقال: هذا صبي، والوقت صعب، ولابد من أن يقوم رجل شجاع ينتصب للجهاد، وتسلطن قطز، ولقب بـ: الملك المظفر.
ثم دخلت سنة ثمانٍ وخمسين، والوقت أيضًا بلا خليفة.
وفيها قطع التتار الفرات، ووصلوا إلى حلب، وبذلوا السيف فيها، ثم وصلوا إلى دمشق وخرج المصريون في شعبان متوجهين إلى الشام لقتال التتار، فأقبل المظفر بالجيوش