ولقد بلغت الحال ببعض هؤلاء المتعلمين أن صار ينظر الي جنسه نظر المؤرخ الى ما قبل التاريخ. فإذا دار الحديث على الشعوب وقسطها من الحياة وافضى الى قومه رأيته- من جهله بتاريخهم- يستدل على حياة الماضين بحياة الموجودين ويستنتج من ذلك أن لا حضارة للأوائل إنما هم قوم عاشوا في الهمجية وسقوط الأخلاق بعيدين عن نظم الحياة وفقه طبيعة الكون وسنن العمران، ويرى انه اعتمد في هذا الحكم القاسي الجائر على أعدل شاهد: قياس الغائب على الشاهد وانه لقياس فاسد وماذا عسى أن تبلغ قيمة قياس دعامته الجهل؟
ثم قد يترقى في حكمه ويلحق المستقبل بالماضي فيقضي على مستقبل أمته بالشقاوة والتعاسة ويرى أن داءها عياء لا يوجد له دواء وربما طلب لها من الأدوية ما هو عين الداء.
ومن الواضح أن في هذه الفترة تلميحا مفهوما الى بعض النتائج التي تترتب على المشروع الثقافي الإستعماري في ما يتعلق بالتجهيل بالتاريخ الوطني وتعميمه، والتي تتمثل في الميل إلى الإدماج باعتباره علاجا وحيدا في حين أنه "عين الداء".
أما المعربون خريجو المعاهد العربية- الإسلامية فقد انتقدهم بلجهة تساوي في قساوتها اللهجة التي انتقد بها المفرنسين، إذ يقول فيهم ما يلي: "وهناك متعلمون تعلموا بالمساجد مبادئ بعض العلوم اللسانية والدينية واهملوا من برامج قرآتهم التاريخية فإذا فارقوا المساجد وقدر لبعضهم أن يحيا حياة علمية، الفيته يقتصر على مراجعة ما درسه من الكتب، وأن دعت الهمة احدهم الى التوسع ففي الفنون التي اخذ مبادئها بالمسجد.
فرطوا بذلك في قراءة علم يعود على اخلاقهم بالتهذيب وعلى عقولهم بالتدريب على التفكير، ذلك علم التاريخ وتلك فوائده.
وان منهم لقوم يخربون عقولهم بأيديهم ويطفئون نور الله- العقل- بأفواههم، ذلك باشتغالهم بقراءة كتب المناقب والخوارق وانها لكتب سيئة الأثر في النفوس.