من البلد هاربًا عندما رأى من هرب من جيشه من غير حرب جَرَت، وتقنطر بعَمْرو الشهري تحته في بُحُورٍ ووحلٍ عَلَى نحو فرسخين، وصادفه غِلمان إسْمَاعِيل الأتراك وَهُوَ قاعد في الموضع والشهري واقفة، فأتوا بِهِ، وضرب إسْمَاعِيل صاحبهم، فقام إليه إسْمَاعِيل وضمّه إلى نفسه وقبّل عينيه وأجلسه إلى جانبه، وَقَالَ: عزَّ والله عَليّ يا أخي ما نالك، وما كنت أحبّ أن يجري هَذَا. وأمر بنزع خلَقِه وثيابه التي استوحل فيها، ودعا بطَسْتٍ وماء وردٍ فغسّل وجهه ورِجليه، وألبسه خلقه، ودعا لَهُ بسكنجبين. وفي خلال ذَلِكَ تمسح إسماعيل وجه عمر بمنديل معه، فامتنع من السكنْجَبيْن، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر وزير إسْمَاعِيل: اشرب واطمئن.
وأخذ إسْمَاعِيل القدح وشرب منه وناوله، ثُمَّ دعا بالطعام وأكلا. وَقَالَ: أيما أحبّ إليك؛ المُقام، أَوِ البعث بك إلى أخي أبي يعقوب متولي سمرقند؟ قال: اخلف أنك لا تغدر بي، ولا تغتالني، ولا تسلّمني. فحلف لَهُ وتوثّق، ثُمَّ بعث بِهِ إلى أخيه.
ووافى عبد الله بن الفتح من المُعْتَضِد بالخلع والمال إلى إسْمَاعِيل، وبكتاب المُعْتَضِد يأمره فيه بتسليم عَمْرو إِلَيْهِ، فامتنع وَقَالَ: هَذَا رجل أهل خُرَاسَان، وَالرَّيِّ، وجميع البلدان التي يجتازها، يميلون إِلَيْهِ، وهم كالعبيد له، ومتى سلمته إليك وشخصت به آمن أن تخرج إليكم العساكر من عند طاهر بن محمد بن عَمْرو، فيسلبونه منكم، ويقعون بكم، ولولا أَنَّ الله أظفرني بِهِ بلا حرب لطال أن أظفر به، ومن كنت عنده مَعَ قوة سلطانه؟ والله يا أبا محمد لقد كتب إليَّ من غير تكنُّن يَقُولُ: يا ابن أَحْمَد، والله لو أردت أن أعمل جسرًا عَلَى نهر بَلْخ من دنانير لا من خشبٍ لفعلت وصرت إليك حَتَّى أقبض عليك. فكتبت إِلَيْهِ: الله بيني وبينك، وأنا رجل ثغري مُصافٌّ للتُرْك، لباسي الكُرْدُواني والغليظ، ولا مال لي، ورجالي إنما هُوَ جيش بغير رزق، وقد بغيت عَليّ، والله بيني وبينك.
فلم يزل عبد الله يناظره، ويسأله تسليم عَمْرو إِلَيْهِ، فَقَالَ: إني أحببت أن يُحمل رأسه إلى سيدي أمير المؤمنين. فطال الخطاب إلى أن أذعن بحمله معه، فوافى رجال إِسْحَاق بعمرو بن اللَّيْث، وسُلّم إلى عبد الله مُقيدًا وَعَلَيْهِ دُرّاعة خزّ مبطَّنَة بثعلب، ووكّل بِهِ تكين التركي، وأمر أن يُعادله عَلَى الحمارة في قُبة، ومعه سكين طويلة وَقَالَ: متى خرج إليكم أحد يحاربكم فاذبحه في الحال، وبعث معه نحو خمسمائة