ثم قال: كان -رحمه اللَّه- حامل فنون من حديثٍ وفِقْهٍ وجَدَلٍ ونَسَبٍ، وما يتعلَّق بأذيال الأدب، مع المُشاركة في أنواع التّعليم القديمة من المنطِق والفلسفة.

ولهُ كُتُب كثيرة لم يخلُ فيها من غَلطٍ لجُرأته في التسوّر على الفنون، لا سيما المنطِق، فإنَّهم زعموا أنَّهُ زلَّ هُناك، وضلَّ في سلوك تلك المسائل، وخالف أرسُطْوطاليس واضعَه مخالفة مَنْ لم يَفْهَم غَرَضَه، ولا أرتاض، ومال أوّلًا إلى النظر على رأي الشّافعيّ، وناضل عن مذهبه حتَّى وُسم بِهِ، فاستُهدف بذلك لكثير من الفُقَهاء، وعِيب بالشُّذُوذ، ثم عدَل إلى قول أصحاب الظّاهر، فنقَّحه وجادل عنه، وثَبُتَ عليه إلى أن مات.

وكان يحمل علمه هذا، ويُجادل مَنْ خَالَفَهُ على استرسالٍ في طباعه، وبذْل لَأسراره، واستنادٍ إلى العهد الّذي أخذه اللَّه تعالى على العُلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ، فلم يكُ يلطف صَدْعَه بما عنده بتعريض ولا بتدريج، بل يصَكُّ به معارضة صكَّ الجَندل، ويُنْشِقهُ إنشاق الخردل، فتنفر عنه القلوب، وتوقع به النّدوب، حتى استُهدِف إلى فقهاء وقته، فتمالئوا عليه، وأجمعوا على قتلِه، وشنَّعوا عليه، وحذَّروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامَّهم عن الدُّنُو منه، فطَفِقَ المُلوك يُقصونه عن قُرْبِهم، ويسيِّرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به منقطع أثره بلده من بادية لَبلة، وهو في ذلك غفير مرتدعٍ ولا راجع، يبثُّ علمه فيمن ينتابه من بادية بلده من عامَّة المُقتبسين، فهم من أصاغر الطَّلبة الّذين لا يخشون فيه الملامة، يُحدّثهم، ويُفقّههم، ويُدارسهم.

كمل من مُصَنَّفاته وِقر بَعِير، لم يَعْدُ أكثَرُها عَتَبَة باديته لزُهْدِ الفُقهاء فيها، حتَّى لَأُحرِق بعضها بإشبيليّة ومُزِّقت علانية.

وأكثر معايبه -زعموا عند المنْصِف له- جهله بسياسة العِلم الّتي هي أعوص، وتخلُّفه عن ذلك على قوّة سَبْحِهِ في غماره، وعلى ذلك فلم يكن بالسَّليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه عند لقائه، إلى أن يُحرّك بالسُّؤال، فينفَجِر منه بحر علمٍ لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلاء.

وكان مِمّا يزيد في سيِّئاته تشيُّعهُ لَأمراء بني أُميَّة ماضيهم وباقيهم، واعتقاده لصحة إمامتهم، حتى نسِبَ إلى النصب لغيرهم1.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015