قال اليسع بن حزم الغافقي، وذكر أبا محمد بن حزم فقال: أمَّا محفوظه فبحرٌ عُجاج، وماءٌ ثجاج، يخرج من بحره مَرْجان الحِكَم، وينبت بثَجّاجه أَلْفَافُ النِّعم في رياض الهِمم، لقد حفظ علوم المُسلمين، وأُربي على أهل كل دين، وألَّف "المِلل والنِّحل". وكان في صباه يَلْبس الحرير، ولا يرضى من المكانة إِلَّا بالسّرير، أنشد المُعتمد فأجاد، وقصد بَلَنسية وفيها المظفّر أحد الأطواد.
حدثني عنه عمر بن واجب قال: بينما نحن عند أبي بِبَلَنْسِيَة، وهو يُدرِّس المذهب، إذا بأبي محمد بن حَزْم يَسْمَعُنا، ويتعجَّب ثُمّ سأل الحاضرين عن سؤال من القدريّة جُووِب عليه، فاعترض فيه، فقال لهُ بعض الحُضّار: هذا العلم ليس من مُنْتَحَلاتِك، فقام وقعد، ودخل منزله فعكف، وكَفَ منه وابلٌ فما كَفَّ. وما كان بعد أشْهُرٍ قريبة حتَّى قصدنا إلى ذلك الموضِع، فناظر أحسن مُناظرةً قال فيها: أنا أتبع الحقّ وأجتهِد، ولا أتقيَّد بمذهبٍ1.
وقال الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السَّلام: ما رأيتُ في كُتُب الْإِسلام في العِلم مثل "المجلّى" لابن حَزم، و"المغني" للشّيخ الموفَّق2.
قلت: وقد امتُحن ابن حزم وشرّد عن وطنه، وجرت له أمور، وتعصَّب عليه المالكيَّة لطول لسانه ووقوعه في الفقهاء الكبار، وجرى بينه وبين أبي الوليد الباجيّ مُنَاظرات يطول شَرْحها.
ونفرت عنهُ قلوب من النَّاس لحطِّه على أئِمَّتِهم، وتخطئته لهم بأفجّ عبارة، وأقطّ محاورة.
وعملوا عليه عند ملوك الأندلس، وحذّروهم منه ومن غائلته، فأقْصته الدّولة وشرّدتهُ عن بلاده، حتى انتهى إلى بادية لَبلة، فتوفِّي بها في شعبان ليومين بقيا منه.
وقيل: توفِّي في قَرْيةٍ له.