قلت: صدق واللَّهِ ابنُ الأثير، وهذه تُسمّى وقعة البابين، وهو موضع بالصَّعيد، أدْرَكَتْهُ فِيهِ الفرنجُ والمصريّون فِي جُمَادَى الآخرة من السّنة، فعمل مشورة، فأشاروا بالتَّعْدِية إلى الجانب الشّرقي والرجوع إلى الشّام، وقالوا: إنِ انهزمنا إلى أَيْنَ نلتجئ؟ فقال بُزْغُش النُّوريّ صاحب الشَّقِيف [1] : مَن خاف القتْل والأسْر فلا يخدم الملوك، والله لئِن عُدْنا إلى نور الدّين من غير غَلَبَةٍ ليأخذنّ إقطاعاتنا ويطردنا.
فقال أسد الدّين: هذا رأيي. وقال صلاح الدّين كذلك، فوافق الأمراء، ونصبوا للملتقى، وجعلوا الثِّقَل فِي القلب حِفْظًا لَهُ وتكثيرا للسّواد، وأقيم صلاح الدّين في القلب، وقال لَهُ عمّه أسد الدّين: إذا حملوا عَلَى القلب فلا تُصْدِقوهم القتال، وتقهقروا، فإنْ ردّوا عنكم فارجعوا عَلَى أعقابهم. ثمّ اختار هُوَ طائفة يثق بشجاعتهم، ووقف فِي الميمنة، فحملت الفرنج عَلَى القلب، فناوشوهم القتال، واندفعوا بين أيديهم عَلَى بقيّتهم، فتبِعَتْهم الفرنج، فحمل أسد الدّين عَلَى باقي الفرنج والمصريّين، فهزمهم، ووضع فيهم السَّيف. فلمّا عاد الفرنج من حملتهم عَلَى القلب رأوا عسكرهم مهزوما، فولّوا وانهزموا، ونزل النَّصر [2] .
ثمّ سار أسد الدّين إلى الصّعيد، فجبى خراجها، وأقام الفرنج بالقاهرة حتّى استراشوا، وقصدوا الإسكندرية وقد أخذها صلاح الدّين يوسف ابن أخي أسد الدّين، فحاصروها أربعة أشهر، وقاتل أهلُها مَعَ صلاح الدّين أشدّ قتال بجموعه، فترحّل الفرنج عن الإسكندريّة [3] .