في سنة اثنتين ومائتين جرت أمور، توفي ضمرة بن ربيعة، وعبد الحميد الحماني، وعمر بن شبيب المسلي، ويحيى ابن اليزيدي، والفضل بن سهل الوزير.
وفي أولها بايع العباسيون وأهل بغداد بالخلافة إبراهيم ابن المهديّ، وخلعوا المأمون لكونه أخرجهم من الأمر وبايع بولاية العهد لعليّ بْن موسى الرِّضا، وأمرهم والدولة بإلقاء السَّواد ولْبس الخُضْرة، فلمّا كَانَ يوم الجمعة خامس المحرم صعد إبراهيم ابن المهديّ - الملقب بالمبارك - المنبر. فأول من بايعه عُبَيْد اللَّه بْن العباس بْن محمد بْن علي، ثم منصور ابن المهديّ أخوه، ثمّ بنو عمّه، ثمّ القُوّاد.
وكان المطِّلب بْن عَبْد اللَّه بن مالك الخزاعي هو المتولي لأخذ البيعة. وسعى في ذلك، وقام به السندي، وصالح صاحب المصلى، ونصير الوصيف، ثم بايعه أهل الكوفة والسَّواد. وعسكر بالمدائن، واستعمل عَلَى جانبي بغداد العبّاس بْن موسى الهاشْميّ، وإِسْحَاق بْن موسى الهادي. فخرج عَلَيْهِ مهديّ بْن علوان الحروري محكما، فجهز لقتاله أبا إسحاق ابن الرشيد، وهو المعتصم، فهزم مَهْديًّا. وقيل: بل وجه لقتاله المطلب.
وخرج أخو أَبِي السّرايا بالكوفة، فلبس البياض، وتجمع إليه طائفة، فلقيه غسان بن الفَرَج في رجب فقتله، وبعث برأسه إلى إبراهيم ابن المهدي. فولاه -[9]- إبراهيم الكوفة، وَبَيَّتَ عسكرُ إبراهيم بعض أصحاب الحَسَن بْن سهل، وخامر حُمَيْد بْن عَبْد الحميد إلى الحَسَن بْن سهل، ثمّ إنّه بعثه إلى الكوفة، فولّى عليها العبّاس بْن موسى، وأمره أنّ يلبس الخُضْرة، وأن يدعو لأخيه عليّ الرِّضا بعد المأمون. وقال لَهُ: قاتِلْ عَنْ أخيك عسكر ابن المهديّ، فإن أهل الكوفة شيعتكم، وأنا معك. فلمّا كَانَ الليل خرج حُمَيْد وتركه.
ثمّ تواقع بعضُ عسكر ابن المهديّ وأصحاب ابن سهل، فانكسر عسكر ابن سهل، وجرت أمور وحُرُوبٌ بين أهل الكوفة؛ وأهل العراق عند إبراهيم، ثمّ أمر إبراهيم عيسى بْن محمد بْن أَبِي خَالِد، وهو أكبر قواده، بالمسير إلى ناحية واسط، وبها الحَسَن بْن سهل، وأمر ابن عَائِشَةَ الهاشْميّ، ونُعَيْم بْن خازم أنّ يسيرا، فلحق بهم سَعِيد بْن السّاجور، وأبو البطّ، ومحمد الإفريقيّ، فعسكروا بقُرب واسط، وأمير الكلّ عيسى. وأمّا الحَسَن بْن سهل فكان متحصنًا بواسط فعبى أصحابه، والتقوا في رجب، فاقتتلوا أشدّ قتال، ثمّ انهزم جيش إبراهيم ابن المهدي، فأخذ أصحاب الحسن أثقالهم وأمتعتهم.
وفي السنة ظفر إبراهيم ابن المهديّ بسهل بْن سلامة الأَنْصَارِيّ المطَّوِّعيّ، فحبسه وعاقبه. وكان ببغداد يدعو إلى العمل بالكتاب والسُّنَّة، واجتمع لَهُ عامة بغداد. فكانوا ينكرون بأيديهم عَلَى الدولة ويغيرون، ولهم شوكة، وفيهم كثرة، حتّى هَمّ إبراهيم بقتاله.
فلمّا جاءت الهزيمة أقبل سهل بْن سلامة يَقُولُ لأصحابه: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فكان كل من أجابه إلى ذلك عمل عَلَى باب داره برجًا بآجر، وجَصّ وينصب عليه السلاح والمصاحف. فلمّا وصل عيسى من الهزيمة أتى هُوَ وإخوته وأصحابه نحو سهل، لأنّه كَانَ يذكرهم بالفسق ويسبهم، فقاتلوه أيامًا. ثمّ خذله أهل الدروب، لأن عيسى وهبهم جملة من الدراهم، فكفوا. فلمّا وصل القتال إلى دار سهل بْن سلامة ألقى سلاحه واختلط بالنظارة، واختفى ودخل بين النساء. فجعلوا العيون عليه، فأخذوه في الليل من بعض الدروب، فأتوا به إسحاق ابن الهادي، وهو ولي عهد عمه إبراهيم، فكلمه وحاجّهُ وقال: حرضت علينا النّاس وعبتنا! فقال: إنّما كانت دعواي عبّاسيّة؛ وإنّما كنت أدعو إلى الكتاب والسُّنَّة. وأنا عَلَى ما كنت عَلَيْهِ، أدعوكم إِلَيْهِ السّاعة. فلم يقبل منه وقال: أخرج إلى النّاس وقل: ما كنت -[10]- أدعوكم إِلَيْهِ باطل. فخرج إلى النّاس وقال: مَعْشَر النّاس، قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من الكتاب والسنة، وأنا أدعوكم إلى ذلك الساعة. فوجأ الأعوان في رقبته ولطموه، فنادى: يا مَعْشَر الحربية، المغرور مَن غررتموه، ثمّ قُيِّد وبُعِث بِهِ إلى المدائن، إلى إبراهيم بْن المهديّ، فجرى بينه وبين إبراهيم كنحو ما جرى بين ابن الهادي وبينه. فأمر بسجنه. وكانوا قد أخذوا رجلا من أصحابه، يقال لَهُ: محمد الرفاعي، فضربه إبراهيم ونتف لحيته وقيده.
واستعمل إبراهيم على قضائه ببغداد قتيبة بْن زياد الخُراسانيّ الحنفيّ، فهاجت في أيّامه العامة على بشر المريسي، وسألوا إبراهيم ابن المهدي أن يستتيبه، فأمر قتيبة بذلك.
قال محمد بن خلف القاضي: سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي يقول: شهدتُ جامع الرّصافة وقد اجتمع النّاس، وقُتَيْبة جالس. فأقيم بشر المريسي على صندوق، وكان مستملي سُفْيَان بْن عُيَيْنَة أبو مُسْلِم، ومستملي يزيد بن هارون يذكران أنّ أمير المؤمنين إبراهيم أمر قاضيه أنّ يستتيب بشرًا من أشياء عدّدها. منها ذِكْر القرآن. فرفع بِشْر صوته يَقُولُ: مَعَاذَ اللَّه لست بتائب، فكثر النّاس عَلَيْهِ حتّى كادوا يقتلونه، فأُدخل إلى باب الخدم.
وأما المأمون، فذكر أنّ عليّ بْن موسى الرِّضا حدَّثَ المأمون بما فيه النّاس من القتال والفتن منذ قتل الأمين، وبما كَانَ الفضل بْن سهل يستره عَنْهُ من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عَلَيْهِ أشياء، وانهم يقولون: إنّك مسحور أو مجنون، وقد بايعوا عمك إبراهيم. فقال: لم يبايعوه بالخلافة، وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم، فبين لَهُ أنّ الفضل قد كتمه وغشه، فقال: ومن يعلم هذا؟ قَالَ: يحيى بْن مُعَاذ، وعبد العزيز بْن عِمران، وعدة من أمرائك، فأدخلهم عليه، فسألهم، فأبوا أن يخبروا إلا بأمان من الفضل أنّ لا يعرض لهم. فضمن المأمون ذلك، فكتب لكل واحد بخطه كتابًا، فأخبروه بما فيه النّاس من البلاء، ومن غضب أهل بيته وقواده عَلَيْهِ في أشياء كثيرة. وبما موه عَلَيْهِ الفضل من أمر هَرْثَمَة. وأن هرثمة إنما جاءه لنصحه ولتدارك الأمر، وأنّ الفضل دسّ إلى هَرْثَمَة من قتله، وأنّ طاهر بْن الحُسين قد أبلى في طاعتك ما أبلى، وفتح الأمصار، وقاد إليك الخلافة مزمومة، حتّى إذا وطَّأ الأمر أخرج من ذَلِكَ كله، وصير في زاويةٍ من الأرض بالرقة، قد منع من الأموال حتى -[11]- ضعف أمره، وشغب عليه جنده، وأنه لو كان عَلَى بغداد لضبط الملك بخلاف الْحَسَن بْن سهل، وقد تنوسي طاهر بالرَّقَّة لا يستعان بِهِ في شيء من هذه الحروب، ثمّ سألوا المأمون الخروج إلى العراق، فإنّ بني هاشم والقواد لو رأوا غرتك سكنوا وأذعنوا بالطّاعة. فنادى بالمسير إلى العراق.
ولمّا علم الفضل بْن سهل بشأنهم تعنّتهم حتّى ضرب البعض وحبس البعض، فعاود عليّ الرِّضا المأمون في أمرهم، وذكره بضمانه لهم، فذكر المأمون أَنَّهُ يداري ما هُوَ فيه.
ثمّ ارتحل من مَرْو وقدم سرخس، فشد قوم عَلَى الفضل بْن سهل وهو في الحمّام فضربوه بالسيوف حتّى مات في ثاني شَعْبان، وكانوا أربعة من حشم المأمون: غالب الشعوذي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، ومرافق الصّقلبي، فعاش ستين سنة، وهرب هَؤُلاءِ، فجعل المأمون لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار. فجاء بهم العبّاس بْن الهَيْثَم الدِّيَنَوَريّ، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فضرب أعناقهم، وقد قِيلَ: إنهم اعترفوا أنّ عليّ ابن أخت الفضل بْن سهل دسّهم.
ثمّ إنّه طلب عبد العزيز بن عمران، وعلي ابن أخت الفضل، وَخَلَفًا الْمِصْرِيّ، ومؤنسًا، فقررهم، فأنكروا. فلم يقبل ذَلِكَ منهم، وضرب أعناقهم أيضًا، وبعث برؤوسهم إلى واسط، إلى الحَسَن بْن سهل، وأعلمه بما دخل عَلَيْهِ من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه، فتأخر عن المسير ليحصّل مغل واسط. ورحل المأمون نحو العراق.
وكان عيسى بْن محمد، وأبو البط، وسعيد يواقعون عسكر الحسن كل وقت.
وأما المطلب بْن عَبْد اللَّه فإنه قدِم من المدائن من عند إبراهيم، واعتل بأنه مريض، وأخذ يدعو في السر للمأمون، عَلَى أن يكون منصور ابن المهدي خليفة للمأمون ويخلعون إبراهيم. فأجابه إلى ذلك منصور ابن المهديّ وخزيمة بْن خازم وطائفة، فكتب إلى حُمَيْد بْن عَبْد الحميد، وعليّ بْن هشام أنّ يتقدما إلى نهر صَرْصَر والنهروان. ففهم إبراهيم بن المهدي حركتهم، فطلب بغداد وبعث إلى المطلب ومنصور وحميد وخزيمة ليحضروا. فتعللوا عَلَى الرَّسُول، -[12]- فبعث إبراهيم إلى عيسى بْن محمد بْن أَبِي خَالِد وإخوته.
فأما منصور وخزيمة فأعطيا بأيديهم. وأما المطلب فقاتل عنه أصحابه وعن منزله حتي كثر عليهم النّاس. وأمر إبراهيم بنهب دياره واختفى هو. فلما بلغ ذَلِكَ حُمَيْدًا وعليّ بْن هشام، بعث حميد قائدا فأخذ المدائن، ثمّ نزلاها. فندم إبراهيم عَلَى ما صنع بالمطلب ولم يقع به.