-سنة ثمان وثمانين وستمائة

مات البِرِنْس صاحب طرابُلُس إلى لعنة اللَّه، فبادر السلطان الملك المنصور مُسِرّاً حصارها، وقدم دمشق، وسار فنازلها فِي أوّل ربيع الأول، ونصب عليها المجانيق، وحُفِرت النُّقوب ودام الحصْر إلى أنْ أخذها بالسّيف فِي رابع ربيع الآخر. وغرق خلْق فِي الميناء، وأُخِذ منها ما لا يوصف، سوى ما نجا فِي البحر، ثم أُحرقت وأُخرب سورها، وكان سورا منيعا محكما عديم المثل، وكانت من أحسن المدن وأطيبها، ثم بعد ذلك اتخذوا مكانا على ميل من البلد، وبنوه مدينة صغيرة بلا سور، فجاء مكانا رديء الهواء والمزاج، ثم تسلم السلطان حصن أنفه، وكان لصاحب طرابلس، فأمر بتخريبه، وتسلم السلطان البثرون، وجميع ما هناك من الحصون، وأنشأ تاج الدين ابن الأثير بأمر السلطان كتابا إلى صاحب اليمن بالبشارة أعز الله نصرة المقام العالي -[425]-

السلطاني الملكي المظفري الشمسي، وهو كتاب مليح ذكر فيه أن طرابلس فتحت في إمرة معاوية، وتنقلت في أيدي الملوك، وعظمت في زمن بني عمار، فلما كان في آخر المائة الخامسة ظهرت طوائف الفرنج بالشام، واستولوا على البلاد، فامتنعت عليهم طرابلس مدة، ثم ملكوها في سنة ثلاث وخمسمائة، واستمرت في أيديهم إلى الآن.

وما أحسن ما قَالَ في بشارة صاحب اليمن، وكانت الخلفاء والملوك في ذلك الوقت ما فيهم إلا من هو مشغول بنفسه مكب على مجلس أنسه، يرى السلامة غنيمة، وإذا عن له وصف الحرب لم يسلك إلا عن طرق الهزيمة، قد بلغ أمله من الرتبة، وقنع بالسكة والخطبة، أموال تنهب، وممالك تذهب، لا يبالون بما سلبوا، وهم كما قيل:

إن قاتلوا قتلوا أو طاردوا طردوا ... أو حاربوا حربوا أو غالبوا غلبوا

إلى أن أوجد الله من نصر دينه وأذل الكفر وشياطينه.

وذكر شرف الدين محمد بن موسى القدسي الكاتب في السيرة المنصورية أن طرابلس عبارة عن ثلاثة حصون مجتمعة باللسان الرومي، وكان فتحها على يد سفيان بن مجيب الأزدي، بعثه لحصارها معاوية في خلافة عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فبنى بالمرج عن أميال منها حصنا سمي به، وقطع الواصل عنها برا وبحرا، وكان يجلب عليها خيلا ورجلا في النهار، ثم يأوي إلى حصنه في الليل، فكتبوا إلى ملك الروم لينجدهم، أو يبعث لهم مراكب للهزيمة، فبعث إليهم مراكب، فهربوا بالليل، فأصبح الحصن خاليا فكتب سفيان إلى معاوية فأسكنه جماعة من اليهود، فنقضوا العهد أيام عبد الملك بن مروان، ثم قَالَ: هذا حكاه المدائني عن عباد بن إبراهيم، وذكر أسامة بن منقذ أنها انتقلت إلى ملوك الشام إلى أن ملك المصريون الشام، فدخل فيما ملكوه، ثم تغلب عليه جلال الملك محمد بن عمار القاضي، فأخرج عامل المصريين منه، ثم تملكه بعده أخوه فخر الملك، ثم قصدها الفرنج في سنة اثنتين وخمسمائة، وأخذوها بعد مطاولة، وكان المنازل لها ابن صنجيل، فقصد فخر الملك بغداد في البحر مستنجدا بالسلطان محمد بن ملكشاه، واستخلف في الحصن ابنَ عمّه، فأضاع الحزم وتشاغل عن القتال، فسأل أهل الحصن الأمان فأُجيبوا، ولم يزل بيد الفرنج إلى الآن. -[426]-

وقال قُطْب الدّين: حُكي لي أنّ سبب أخْذ الفرنج لها أنّ ابن صَنْجيل جرى لَهُ أمرٌ أوجب خروجه عن بلاده، فركب البحر، وثجج فِيهِ، وتوقّفت عَلَيْهِ الرّيح، ثم رماه الموج إلى الساحل، فنزل بساحل طرابُلس، فسيَّر إلَيْهِ ابن عمّار يسأله عن أمره، فأخبره بأنّه نزل يستريح ويتزوَّد، وسأله أن يُخرج إلَيْهِ سُوقًا، فخرج إلَيْهِ جماعة فبايعوه وكسبوا عَلَيْهِ. ثمّ نزل إلَيْهِ أهل جُبَّة بشرِّي، وهم نصارى فبايعوه، وعرّفوه أمرَ طَرابُلُس، وأنّ الرّعيّة نصارى، وأنّ صاحبه متغلّب عَلَيْهِ، وحسّنوا لَهُ المقام، ووعدوه بالمساعدة عَلَى أخْذه، فأقام. وحضر إلَيْهِ خلقٌ من نصارى البلاد، وعجز ابن عمّار عن ترحيله. ثمّ بنى ابن صَنْجيل الحصنَ المشهور بِهِ الّتي بُنيت طرابُلُس المنصوريّة تحته، وأقام بِهِ واستولى عَلَى بَرّ طرابُلُس، ولم يزل مُصابرًا لها، وكلّما لَهُ يقوى ويكثُر جَمْعُه، ويضعُف أهل البلد، ولا ينجد ابن عمّار أحدٌ، ثمّ حصل الاتّفاق عَلَى أنّه يخرج منها بجميع ماله إلى عِرْقة، فخرج إليها وأقام بها مدّةً ثمّ فارقها. وقوي شأن الفرنج بالسّاحل. ثمّ صلْح أمر ابن صَنْجِيل فِي بلاده التي بالبحر، وتوجّه إليها واستناب عَلَى طرابُلُس بيْمُنْد جدّ صاحبها.

ثمّ مات ابن صَنْجِيل وترك بنتًا، فكان بيْمُنْد يحمل إليها كلّ وقتٍ شيئًا إلى أن مات، وقام بعده ولده بيْمُند الأعور، فاستقلّ بمملكتها.، وكان شهمًا شجاعًا وطالت أيّامه، ثمّ تملّك بعده ولده بيْمُنْد، ولم يزل إلى حين تُوُفّي، وكان جميل الصورة، جاء إلى التّتار أيام هولاوو، فقدِم بَعْلَبَكّ وطمع أن يُعطاها، فطلع إلى قلعتها ودارَها، ونازل الملكُ الظّاهر بلَدَه مرّتين، وكان ابن بِنْت صاحب سِيس وبيده أيضًا أنطاكية، فهلك وتملّك بعده ابنهُ، فلم تطُلْ مدّته وهلك وتملك بعده " سير بلمه ". وعندما أُخِذت طرابُلُس قصد الميناء فقيل: إنّه غرِق، وقيل: نجا.

وذكر القاضي شمس الدّين ابن خلَّكان أنّ الفرنج أخذت طرابُلُس فِي ثاني عشر ذي الحجّة ,، وكان صاحبها فخر المُلْك عمّار بْن مُحَمَّد بْن عمّار قد -[427]-

صبر عَلَى محاصرته سبع سِنين، واشتدّ الغلاء، فخرج منها وقصد بغداد طالباً للإنجاد.

وللشهاب محمود أبقاه اللَّه.

علينا لمن أولاك نِعمتَه الشُّكْرُ ... لأنّك للإسلام يا سيفَه ذخر

ومِنّا لك الإخلاص فِي صالح الدُّعا ... إلى من لَهُ فِي أمر نُصْرتك الأمرُ

ألا هكذا يا وارث الملك فليكن ... جهاد العدى لا ما تولى بِهِ الدَّهرُ

فإنْ يكُ قد فاتَتْك بدْرٌ، فهذه ... بما أنزل الرحمن من نصره بدرُ

نَهضْتَ إلى عَلْيا طرابُلُس التي ... أقَلّ عناها أنَّ خَنْدَقَها بحرُ

وقد ضمّها كالطَّوْق إلّا بقيّة ... كنحر وأنت السّيفُ لاح لَهُ نحرُ

مُمَنَّعَةٌ بِكْرٌ، وهل فِي جميع ما ... تَمّلكْتَهُ إلّا مُمَنَّعَةٌ بِكْرُ؟

ومن دون سورَيها عُقاب منيعة ... يزلّ إذا ما رام أوطاءها الذر

وما برحت ثغرا ولكن عدا العدى ... عليها بحُكم الدَّهر فانثغر الثغرُ

وكانت بدار العلم تُعرفُ قبل ذا ... فمن أجل ذا للسّيف فِي نظْمها نَثْرُ

وكم مَرّ من دهْرٍ وما مسّها أذًى ... وكم راح من عصرٍ وما راعها حصْرُ

ففاجأتها بالجيش كالموج فانثنَتْ ... تميدُ وقد أربى عَلَى بحرها البرُ

فظلت لدى بَحْرَيْن أنكاهما لها ... وأقتله العذب الذي جره مصر

منها:

كأنّ المجانيق التي أوترت ضُحى ... عليها لها فِي شُمّ أبراجها وَترُ

أصابعُها تُومِي إليهم ليسجدوا ... فتقبّل منها دون سكّانها الْجُدُرُ

ويُمطرها من كلّ قَطْر حجارةً ... لقد خاب قومٌ جادَهُم ذَلِكَ القَطْرُ

تخلَّقَ وجْهُ السُّور منهم كأنّما ... غَدَت وعليها فِي الّذي فَعَلْتَ نذرُ

منها:

وأطلقتَ فيها طائر السَّيفِ فاغْتَدَى ... وليس لَهُ إلا رؤوسهم وَكْرُ

ولاذُوا بباب البحر منك فما نجا ... إلَيْهِ سوى مَن جرّه من دمٍ نهرُ

ولم ينج إلّا من يخبّر قومه ... ليدروا وإلا من تغمَّده الأسرُ

فللَّه كم بيضٍ وسُمْرٍ كواعب ... عَلَى رغمهم قد حازت البيض والسمر -[428]-

وفي هُلْكهم يوم الثُّلاثاء إشارةٌ ... إلى أنّ في الدارين تثليثهم خسر

منها:

وماذا بِهِ يُثْني عليك مُفَوَّهٌ ... ولا قدرهُ يأتي بذاك ولا قدر

ولكن دعاء وابتهال بأنه ... يعز على رغم الأعادي لك النَّصر

وهي بضعةٌ وستّون بيتًا انتقيتها.

وعمل قصيدةً فِي ملك الأمراء لاجين وقصيدة فِي ملك الأمراء بلَبان الطّبّاخيّ.

وذكر سيف الدّين ابن المحفّدار أنّ عدّة المجانيق التي نُصبت عليها تسعة عشر منجنيقًا، ستّة إفرنجية والباقي قُرابُغا. والّذي تسلّمناه من الأسرى ألف ومائتا أسير، وقُتل عليها من الأمراء عزّ الدّين مَعن، ورُكن الدّين منكورس الفارقانيّ، ومن الحلقة خمسة وخمسون نفْسًا، وقال: عرض سُورها مسير ثلاثة خيّالة.

ونقل العدْل شمس الدّين الْجَزَريُّ فِي " تاريخه " قَالَ: قدم بطْريق وجماعته فِي أيّام عَبْد الملك بْن مروان فطلب أن يقيم بطرابلُس ويؤدّي الجزية، فأُجيب. فلبث بها مدّة سنتين وتوثَّب بها، فقتل طائفة من اليهود وأسر طائفة من الْجُنْد، وهرب لمّا لم يتمّ لَهُ الأمر؛ فظفر بِهِ عَبْد الملك فصلبه. ثمّ لم تزل فِي أيدي المسلمين إلى أنْ ملكها ابن عمّار، إلى أن مات سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة ومَلَكها بعده أخوه فخرُ المُلْك. فَلَمَّا أخذت الفرنج أنطاكية في سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، نزل الملك صَنْجيل بجُموعه عليها، واسمه ميمون، نازلها فِي سنة خمسٍ وتسعين وعمّر قبالتها حصنًا وضايقها مدّة، ثمّ خرج صاحبها يستنجد في سنة إحدى وخمسمائة، فاستناب ابن عمّه أَبَا المناقب، ورتّب معه سعدَ الدّولة فتيان بْن الأعزّ، فجلس يومًا فشرع يهذي -[429]-

ويتجنّن، فنهاه سعد الدّولة فرماه بالسّيف فقتله، فأمسكه الأمراء ونادوا بشعار الأفضل أمير الجيوش سلطان مصر وحموا البلد إلى أن مات صَنْجِيل. ثمّ ما زال جُنده يحاصرونها إلى أنْ أخذوها فِي ذي الحجّة سنة اثنتين، وتوّلاها السّرْدانيّ، مقدَّم منهم، فوصل بعد مدّة تيران بْن صَنْجِيل، ومعه طائفة من جُند أبيه، فقالوا للسرداني: هذا ولد صَنْجِيل، وهو يريد مدينة والده يعني الحصن. فقام السّردانيّ ورفسه، فأخذه أعوانه وداروا بِهِ عَلَى أعيان الفرنج، فرحموه وتذكّروا الأيْمان الّتي حلفوها لأبيه وقالوا: إذا كَانَ غدًا فاحضرْ، ونحن نتكلّم مَعَ السّردانيّ، فلمّا حضر عنده كلّمه، فصاح عليه السرداني، فقاموا كلّهم عَلَيْهِ، وخلعوه وملّكوا الصَّبيّ، فأقام مِلكاً إلى أن قتله برواج في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. واستخلف عَلَى البلد ولده القُومص بدران إلى أن أسره الأتابك زنكي بْن آقسُنْقُر بقرب بَعْرين، ثمّ فَدَى نفسه بمالٍ، وعاد إلى طرابُلُس، ثمّ وثبت عَلَيْهِ الإسماعيليّة قتلوه , وولي بعده ريمُنْد، وهو صبيّ. ثمّ إنهّ حضر الوقعة مَعَ السّلطان نور الدّين فِي سنة تسعٍ وخمسين عَلَى حارِم، فأبقى عَلَيْهِ صلاح الدين لأنه كان مهادناً للمسلمين.

قَالَ الْجَزَري: وفيها احتاط الشجاعيّ بدمشق عَلَى حواصل التقيّ البيّع وصادره، ثمّ طرح أملاكه. وأخشابه عَلَى الرؤساء بثلاثة أثمان، وهرب جماعة من المصادرة منهم أَبِي وإخوتي وغبْنا عن البلد شهرًا، وتغيّب عزّ الدّين ابن القلانِسيّ، ثمّ طالبوا نجم الدّين عبّاس الجوهري بمُغَلّ ضيعة كان اشتراها من بنت الأشرف بالبقاع، فأعطاهم جوهرًا قيمته ثمانون ألف درهم، فقالوا: نَحْنُ نريد دراهم وألحّوا عَلَيْهِ، فنزل إلى مدرسته، وحفر فِي دِهليزها، فأخرج لَهُ خونجاه ذهب مرصَّعة بجواهر، فقِّومت بأربعمائة ألف. -[430]-

ثمّ سافر السّلطان من دمشق فِي شعبان والقلوب فِي غاية الألم منه، وأخذ معه التّقيّ توبة مقيّدًا إلى حمراء بَيْسان، فمرّ طرنطاي وكتْبُغا عَلَى الزَّرَدْخاناه وبها التّقيّ توبة، فلم يكلّموه، فصاح وشتم وقَالَ: والكم يا أولاد الزّنا، أَنَا ضيّعتُ دنياي وآخرتي لأجلكم، وأنا شيخ كبير فِي القيد، وقد أخذوا جميع ما أملك، هذا جزاء خدمتي؟ فضحكوا، ثمّ إنّهم كلّموا السّلطان فِيهِ، وضمنوه أنّه لا يهرب، فأطلقه وأخذوه. ولم يكن الشجاعيّ حاضراً.

قَالَ شمس الدّين: وفي أوّل السّنة سافر ابن السَّلعوس إلى مخدومه الملك الأشرف، فاستناب عَنْهُ فِي الحِسْبة تاجَ الدّين ابن الشّيرازيّ.

وفي ربيع الآخر وُلّي الحسبة الجمالُ يوسف أخو الصّاحب تقيّ الدّين، فلمّا احتاطوا عَلَى تقيّ الدّين أعادوا ابْن الشّيرازيّ إلى الحسبة مستقلا.

وفيها حجّ برَكْب الشّام زين الدّين غلبك.

وفيها قدم دمشق الواعظ نجمُ الدّين ابن البُزُوريّ ووالدُه، ووعظ عَلَى باب مشهد عليّ مرّات وحضره الخلّق، وكان رأسًا فِي الوعْظ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015