قال أبو شامة رحمه الله: فيها جاء إلى القاهرة كتابٌ يتضمّن نصر المسلمين على النّصارى في بَرّ الأندلس، وسُلطان المسلمين أبو عبد الله ابن الأحمر، وكان الفُنْش ملك النّصارى قد طلب من ابن الأحمر السّاحل من مالقة إلى المَرِيّة، فاجتمع المسلمون والتقوهم، فكسروهم مرارًا وأُخِذ الفُنْش أسيرًا، ثمّ اجتمع العدوّ المخذول في جمْع كبير، ونازلوا غَرْناطة، فانتصر عليهم المسلمون، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وجمع من رؤوسهم نحو خمسةٍ وأربعين ألف رأس، فعملوها كَوْمًا وأذّن المسلمون فوقه، وأسروا منهم عشرة آلاف أسير، وكان ذلك في رمضان سنة اثنتين، وانهزم الفنش إلى إشبيلية وهي له، وكان قد دفن أباه بها بالجامع، فأخرجه من قبره خوفًا من استيلاء المسلمين، وحمله إلى طليطلة.
قال: ورجع إلى المسلمين اثنان وثلاثون بلدًا، من جملتها إشبيليّة -[12]-
ومُرْسِية، كذا قال، والله ينصر المسلمين حيث كانوا.
قال قُطْبُ الدّين: وفي أوّلها بلغ السّلطان أنّ جماعة أمراء وأجناد اجتمعوا في دار ططماج، فتكلّموا في الدّولة، وزاد في الكلام ثلاثةُ أنفُس، فسمَّر أحدهم وكحَّل الآخر، وقُطِعت رِجلا الثالث، فانحسمت مادة الاجتماعات.
قال: وفي ربيع الآخر قُطِعت أيدي ثلاثةٍ وأربعين نفسًا من نُقباء والي القاهرة، ومن الخَفَر والمقدَّمين، فمات بعضُهم، وسبب ذلك ظهور شلوح ومناسر بالقاهرة وضواحيها.
وفيها نازلت التّتّر البيرة، فَسَاق المحمّديّ وسُمّ الموت للكشف، وأغار عيسى بن مُهَنّا على أطراف بلادهم فرحلوا عن البيرة.
قال: وفي ربيع الآخر توجّه السّلطان بالعساكر إلى قيساريّة فحاصرها وافتتحها عَنْوةً في ثامن جُمَادى الأولى، وامتنعت القلعة عشرة أيّام وأُخِذت وهرب من فيها إلى عكّا، فخرَّبها السّلطان وأقطع قُراها.
ثمّ سار فنازل أرسُوف ونصب عليها المجانيق إلى أن تداعى بُرْجٌ تجاه الأمير ببليك الخَزْنَدَار، فهجم البلد بأصحابه على غَفْلةٍ، ووقع القتْل والأسر وذلك في ثاني عشر رجب، ثم هدمت وعاد السلطان وزينب القاهرة.
وفيها أُحِرق بحارة الباطنيّة بالقاهرة حريقٌ كبير، ذهب فيه ثلاثةٌ وستّون دارًا، ثمّ كثُر بعد ذلك الحريق بالقاهرة، واحترق رَبْع العادل وغير ذلك، فكانت توجد لفائف مشاق فيها النّار والكِبريت على الأسطحة، وعظُم ذلك على النّاس واتّهموا بذلك النّصارى وقدِم السّلطان فَهَمَّ باستئصال النّصارى واليهود، وأمر بجْمع الأحطاب والحلْفا في حفِيرةٍ ليُحرقوا فيها، ثمّ كُتِّفُوا ليُرموا في الحَفِيرة، فشفع فيهم الأمراء وأمروهم أن يشتروا أنفسهم، فقرروا عليهم خمسمائة ألف دينار يقومون منها في العام بخمسين ألف دينار -[13]-
وضَمِنهم الحبيس وكان كاتبًا ثمّ ترهَّب، وأقام بجبل حُلوان، فيقال: إنّه وُجِد في مغارةٍ من الجبل دفينًا للحاكم العُبَيْديّ، فلمّا ظفر بالمال واسَى به الفقراءَ والصّعاليك من كلّ مِلّةٍ، فاتّصل خبرُه بالسّلطان، فطلبه وطلب منه المال، فقال: لا سبيل إلى أن أعطيك من يدي إلى يدك، ولكن يَصل إليك من جهة من تصادره ولا يقدر على تطلّبه منه، فلا تعْجَل عليّ، فلمّا جَرَت هذه الواقعة للنّصارى ضَمِنهم، وقد ذكرنا وفاتَه في سنة ستٍّ وستّين، وكانت قد وصلت الفتاوى بقتْله خوفًا من الفتنة على ضُعفاء الإيمان من المسلمين، من علماء الإسكندريّة، فقيل إنّ مبلغ ما وصل إلى بيت المال من طريقه في مدّة سنتين ستّمائة ألف دينار، وقد ضُبط ذلك بقلم الصّيارفة الّذين كان يجعل عندهم المال ويكتب إليهم أوراقه، وذلك خارجًا عمّا كان يُعْطيه بيده سرًّا، وكان لا يأكل من هذا المال ولا يلبس، بل النّصارى يتصدّقون عليه بما يأكل ويلبس، ولم يظهر له بعد موته ولا دينارٌ واحد، وكان يقول: من لم يكن معه شيء أدّيتُ عنه في المصادرة، فكان يدخل الحبْس ويُطلق من عليه دَيْنٌ ومن وجده ذا هيئةٍ رثَّةٍ واساه، ومن شكى إليه ضرورةً أزاحها عنه، وقد سافر إلى الإسكندريّة وأدّى جُملةً عن أهل الذّمّة، وكذا سافر إلى الصّعيد وأدّى المقرَّر على أهل الذّمّة، وكان عجيب الحال، لعنه الله، ومن لُطْف الله أنّه غير مسلم وإلّا لو كان مسلمًا لتألّهه النّاس، وادّعوا فيه النُّبُوّة أو القُطْبيّة، نسأل الله العافية.
وفي شوّال شرع السّلطان في حفر بحر أشموم وفرّقه على الأمراء وعمل معهم بنفسه، فلمّا فرغ ركب في الحرّاقة، وأخذ معه زاد أيّامٍ يسيرة، وسار ليسُدّ فَمَ جسْر على بُحَيرة تنّيس انفتح منه مكان، وخرج الماء فغرق الطريق بين الواردة والعريش، فأقام هناك يومين، وحصل له وَعَكٌ، فعاد إلى مصر.
وفيه طلع من الشّرق كوكب الذَّنب، وهو كوكبٌ له ذُؤابة، فبقي نحو أربعين يومًا.
وفيها شنق قاضي البيرة؛ لأنه كاتب صاحبَ سِيس ليبيعه قلعة البيرَة، فهتكه الله وأهلكه. -[14]-
وفي أولاها وصل رسولُ صاحبِ سِيس يُبشِّرُ السّلطان بموت هولاكو ثمّ ورد الخبر بأنّ التّتار ملّكوا أَبْغَا بن هولاكو، وأنّ برَكَة قصده فكسره، فعزم الملك الظّاهر على التَّوجُّه إلى العراق ليغتنم الفرصة، فلم يتكمن لتفرق العساكر في الإقطاعات.
وفي شوّال سَلْطَن السّلطان ولَدَه الملَك السّعيد وركّبه بأُبَّهة المُلْك في قلعة الجبل، وحمل الغاشية بنفسه بين يدي ولده من باب السّرّ إلى السّلسلة، ثمّ عاد، وكان صبيًّا ابن أربع أو خمس سنين، ثمّ ركب الملك السّعيد وسيّر ودخل من باب النّصر، وخرج من باب زَوِيلة وسائر الأمراء مُشاة والأمير عزّ الدّين الحِليّ راكبٌ إلى جانبه والوزير بهاء الدّين وقاضي القُضاة تاج الدّين راكبان أمامه والبيْسريّ حامل الْجَتْر على رأسه، وعليهم الخلع، ثمّ بعد عشرين يومًا خُتِن الملك السّعيد، وختن معه جماعة من أولاد الأمراء.
وفيها جُدِّد بالدّيار المصريّة القُضاة الأربعة، من كلّ مذهب قاضٍ وسبب ذلك توقُّف القاضي تاج الدّين ابن بنت الأعزّ عن تنفيذ كثير من الأحكام وكثُر توقُّفه، فكثُرت الشّكاوى منه وتعطّلت الأمور، فوقع الكلام في ذي الحجّة بين يدي السّلطان وكان الأمير جمال الدّين أَيْدغّديّ العزيزيّ يكره القاضي تاجَ الدّين، فقال له: نترك لك مذهب الشّافعيّ، ويُولَّى معك من كلّ مذهبٍ قاض، فمال السّلطان إلى هذا، وكان لأيْدغديّ العزيزيّ محلٌّ عظيمٌ عند السّلطان، فولي قضاء الحنفية الصّدر سليمان، وقضاء المالكيّة شَرف الدّين عمر السُّبْكيّ، وقضاء الحنبليّة شمس الدّين محمد ابن العماد، واستنابوا النُّواب، وأبقى على الشّافعيّ النَّظَر في أموال الأيتام، وأمور بيت المال، ثمّ فُعِل ذلك بدمشق.
وفيها أُحضِر بين يدي السّلطان خَرُوفٌ وُلِد على صورة الفيل، له خرطوم وأنياب.
وفيها وقع الاهتمام بعمارة مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلّم، فوجَّه إليه الصُّنّاعَ والأخشاب والآلات والمال، فبقيت الصُّنّاع فيه أربع سِنين.
وفي رمضان حجبَ الملك الظّاهر الخليفة وجعله في بُرْج بقلعة مصر، لكون أصحابه كانوا يخرجون إلى البلد ويتكلَّمون في أمر الدّولة -[15]-
وفيها ولي أمورَ الموصل رضيّ الدّين البانيّ، فعذّب الّذي كان قبله زكيّ الدّين الإربليّ وصادره ثم قتله.
وفيها قبض ببغداد مرمكيخا الجاثليق على نصرانيّ قد أسلم وسجنه بداره الّتي كانت للدُّوَيْدار الكبير، وعزم على تغريقه، فهاجت العامّة وحاصروا البيت وأحرقوا باب داره، وقتلوا أصحابه، ثمّ ركب الشِّحْنة، وقتل طائفةً وسكنت الفتنة، وذهب الكلب إلى هولاكو وبنى بيعةً بقلعة أرسن.
ووصل شخصٌ إلى بغداد بفيلَين، ثمّ سار ليُقدَّما للملك.