فِي ربيع الأول مات الملك المُعزّ أيْبك التُّركمانيّ صاحب مصر، قَتَلتْه زوجتْه شجر الُّدّر، وسلطنوا بعده ولده الملك المنصوري عليّ بن أيْبك. -[668]-
وفيها تردَّدت رُسُل التّتار إلى بغداد، وكانت الفرامين منهم واصلة إلى ناس بعد ناس من غير تَحَاش منهم فِي ذلك ولا خيفة، والخليفة والناس فِي غفلةٍ عما يُراد بهم ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا.
وفي رمضان توجَّه الملك العزيز ابن السُّلطان الملك النّاصر يوسف، وهو صبيٌّ مع الأمير الزَّيْن الحافظي وجماعة بهدايا وتُحف إلى هولاكو.
وأما المصريون فاختلفوا وقُبض على جماعةٍ منهم وقُتِل آخرون، ووُلي الوزارة القاضي تاج الدين ابن بِنْت الأعز.
وفيها كانت فتنةٌ هائلة ببغداد بين السُنَّة والشيعة أدت إلى خرابٍ ونهب، وقُتل جماعة من الفريقين، واشتد الأمر، ثم بعث الخليفة من سكَّن الفتنة.
وفي هذا الوقت ظهر بالشّام طائفة الحيْدريّة، يقصون لحِاهم ويلبسون فراجي من اللباد وعليهم طراطير، وفي رقابهم حِلَقٌ كبار من حديد. زعموا أن الملاحدة أمسكوا شيخهم حيْدَر وقصوا ذَقْنه، وهم يُصلون ويصومون، ولكنهم قوم منحرفون، وكان أمر الدّين ضعيفًا في أيام النّاصر بدَوران الخمر والزنا وكثْرة الظُّلم وعدم العدل، وظهور البدع، وغير ذلك.
وفيها وقعت وحْشةٌ فِي نفس الملك النّاصر من البحرية، وبَلَغَة أنهم عزموا على الفتْك به، فأمرهم بالانتزاح عن دمشق، ففارقوه مُغاضِبين له ونزلوا غزَّة، ثم انتموا إلى الملك المغيث صاحب الكَرَك، وخطبوا له بالقُدس، وأخذوا حواصل غزة والقدس. ثم حصل الانتصار عليهم فانهزموا إلى البَلْقاء، ثم طمعوا المغيث فِي أخْذ مصر له، وأنفق فيهم الأموال، وساروا، فَجَرَت لهم وقعة مع المصريين فانكسروا وزينت مصر.
قال ابن واصل: انقاد المغيث للبحرية وأنزل إليهم بعض عسكره مع أتابكه الطواشي بدر الدين الصوابي الَّذِي ملكه الكَرَك عند قتلة الملك المعظم ابن الصالح، وكان الصالح لما تملكها فِي آخر أيامه استناب بها الصوابي، وسيَّر إليها خزانة عظيمة من المال، فضيعه المغيث على البحرية طمعًا فِي الديار المصرية، ثم سار جيش المغيث إلى مصر فبرز لحربهم جُندها فكثروهم، وجُرح سيف الدين الرشيدي وأُسر، فانهزم الصوابي وركن الدّين -[669]-
البُنْدُقْداريّ وطائفة، ودخل جماعةٌ منهم القاهرة مستأمنين، وكان قد جاء قبلهم عز الدّين الأفرم فأُكْرم.
وفيها قدِم الشَّيْخ نجم الدين الباذرائي بالخِلْعة الخليفتيّة للملك النّاصر بالسلطنة فركب بها، وكان يومًا مشهودًا، فلما رجع توجَّه معه إلى العراق النّاصر دَاوُد فِي جماعةٍ من أولاده، وكان قد أباعه النّاصر داره المعروفة بدار سامة فصيَّرها مدرسة، فلما وصلوا إلى قرقيسيا أشار الباذرائي عليه بالإقامة حتى يستأذن له، فأقام ولم يجئْه إذْنٌ، فردَّ إلى الشّام، وتوجَّه فِي البريَّة إلى أن وصل إلى تِيه بني إسرائيل واجتمع إليه العُرْبان.
وفيها أغارت التّتار على بلاد المَوْصل وفتكوا.
وفيها بَطَل سعد الدين خضر بن حَمُّويه وترك الجُنْديّة وزالت سعادته والتجأ إلى التَّصوُّف، قال فِي " تاريخه ": ولما عاندني الدَّهر فِي أموري، وباعَدَ سُروري، وكدَّر مشاربي، وعسَّر مآربي، وانقطعت الأرزاق، وانحل كيس الإنفاق، خرجتُ من مصر، فلما حلَلْتُ بدمشق، مسقط رأسي، فوجدتُها وقد صوَّح واديها، وخلا من الأنيس ناديها، وارتفعت منها البركات، وأحيط بها الظُّلم والظُّلُمات، والأسواق كاسدة، والرعايا فاسدة، عدم الحياء، وظهرت الجنايات، وسفل المعروف، وعَلَت المُنْكرات، وأُحدّث من الرسوم ما لم يُعْهَد، وحُمِّلوا أثقالًا مع أثقالهم، إنِ استغاثوا بالملك أجابهم بالضَّرب والرد، وإنِ استنجدوا بالوزير عاملهم بالإعراض والصد، وإن سألوا الحاجب طلب الرِّشا بلا حمد.
إلى أن قال: لا يحضر لهم أحدٌ على مائدة، ولا يرجع من عندهم بفائدة، قومٌ إذا أكلوا أخفوا كلامهم واستوثقوا من رِتاج الباب والدّار، يكذبون ويحلِفون، ويعدون ويُخْلِفون، وعلى حريم أصحابهم بالفاحشة يخلفون، قد قنع كل منهم بلؤمه، ولفَّ ذنبه على خيشومه، قيل لوزيرهم: إنا نُطيل الجلوس، فلو جعلتَ علامةً لقيامنا. قال: إذا قلت يا غلام هاتِ الغداء فانصرِفوا، وقال صاحب ديوانهم لغُلامه: هات غدائي وأغلِقِ الباب. فقال: بل أُغْلق الباب وأجيء بالطعام. قال: أنت أحذق منّي، فأنت حرٌّ لوجه الله. -[670]-
وحضر شاعر مائِدةً أكبرٍ أُمرائهم فرمَى لُقمةً للهر، فقال الأمير: لا تُطعمها فإنها هرَّة جيراننا.
ومن غرائب الظُّلم أن رجلًا جاء بحِمْل عَسَلٍ، فأُخِذ للخوشخاناه، فطولب بمكس العسل، فقال: خذوا من تحت أيديكم. قَالُوا: ما نعرف ما تقول، فذهب بالبغل يبيعه، فأخذه أمير الإصطبل، وطولب بحقه فِي السوق فقال: ادفعوا لي ثمنه وخُذوا حقكم. قَالُوا: ما نعلم ما تقول، وحبسوه على مكْسه، فكتب إلى أهله، نفِّذوا لي دراهم حتى أستفِكَّ روحي، فقد راح العسل والبغل، وأنا محبوس على الحق، ومما يناسب هذه الحكاية أن امرأةًَ ذهب منها حُلِيٌّ بخمسة آلاف فوجده منادي بسوق الرحبة فردَّه عليها، فوهبته خمسمائة درهم فتمنَّع وقال: إنما ردَدْته للهِ، فألزمته فأخذ الدراهم، فسمع به الوالي فأحضره وأخذ منه الدّراهم وضربه وقال: ليش ما جبت الحُليِّ إلى عندنا؟ ثم ذكر علاكًا طويلًا في هذا النحو.
وفي سنة خمس سار هولاكو من هَمَذان قاصدًا بغداد، فأشار ابن العلْقَميّ الوزير على الخليفة ببذل الأموال والتُّحف النفيسة إليه، فثناه عن ذلك الدُّوّيْدار وغيره، وقالوا: غرضُ الوزير إصلاح حاله مع هولاكو. فأصغى إليهم وبعث هديّة قليلة مع عبد الله ابن الجوزي، فتنمّر هولاكو وبعث يطلب الدُّوَيْدار وابن الدُّوَيْدار وسليمان شاه فما راحوا، وأقبلت المُغُل كاللّيل المظلم، وكان الخليفة قد أهمل حال الجُند وتعثروا وافتقروا، وقُطعت أخبازهم، ونُظِم الشِّعْر في ذلك.